المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة ذ.أيوب الوكيلي

 

الطرح الاشكالي:

     تتخذ القيمة معاني مختلفة ومتنوعة، فقيمة الشيء في اللغة قدره، وقيمة المرء ما يحسنه، إن القيمة تطلق على كل ما يقبل التقدير، وكل ما هو جدير باهتماماته وعنايته، كما أن مفهوم القيمة يستعمل في ميادين مختلفة متنوعة، الأخلاق والسياسة وغيرها.  وإذا عدنا إلى تاريخ الفلسفة، فإن قيمة الحقيقة تجلت في أبعاد مختلفة، فسقراط اعتبرها فضيلة والبعض اعتبرها قيمة معرفية ضرورية لتقدم المعرفة، وهناك من اعتبرها مصلحة ومنفعة.  إذن فما هي قيمة الحقيقة؟ من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ ما الذي يجعل الحقيقة مرغوبا فيها وغاية وهدفا للجهد الإنساني؟ فهل لهذه الأخيرة قيمة؟ هل قيمة الحقيقة تتجلى في ذاتها أم فيما ينتج عنها؟ هل الحقيقة قيمة في ذاتها؟ وهل هي غاية أم ومجرد وسيلة؟ وهل ترتبط بمجال الفكر أم تتجاوزه إلى مجالات أخرى؟

الحقيقة قيمة أخلاقية: إيمانويل كانط

يرى كانط أن الحقيقة تستمد قيمتها من ذاتها باعتبارها واجبا أخلاقيا كونيا مطلقا ينبغي الالتزام به في جميع الأحوال وكيفما كانت الظروف ومهما كانت النتائج. وهكذا فعلى الانسان أن يتحلى بالصدق، وأن يقول الحق دائما وأبدا، لأنه بذلك يحترم الواجب والقانون والانسانية.

     الحقيقة إذن واجب وأمر أخلاقي بعيد عن المنفعة والمصلحة الخاصة، لأنها غاية في ذاتها، لا ترتبط بالشروط الخارجية المختلفة والمتنوعة، الشيء الذي يجعل قول الحقيقة فعلا ملزم أخلاقيا، حتى ولو كانت مضرة بمصلحته، لأن الكذب وإن قدم له منفعة مؤقتة، فإنه يضر بالإنسانية جمعاء.

من هذا المنطلق فإن الحقيقة قيمة أخلاقية منشودة لذاتها، ترفض كل ما يرتبط بالمصالح والأهواء وفي هذا السياق يقول كانط: "إن الحقيقة لا من مقتضيات العقل المقدس والضرورة، إذ على الإنسان أن يكون صادقا في تصور أحواله وأقواله".  وبالتالي فالحقيقة واجب أخلاقي لا يجب أن نتهاون فيه، وكل إخلال بهذا الواجب هو إخلال بالقانون العام الذي يعاقب عليه فاعله.

المناقشة القيمة الفلسفية:

لكن إلى أي حد يمكن القول إن الحقيقة قيمة مطلقة ترتبط بالواجب الأخلاقي، ألا يمكن القول بأن قيمة الحقيقة قد ترتبط بمجالات خارج الإطار المعرفي الصرف، أليس بإمكاننا القول أن الحقيقة مجرد وهم ترسب في عقول الناس؟ اليست الحقيقة مجرد حكاية وهمية تخدم الحياة؟

موقف نيتشه: وهم الحقيقة

لكن مع نيتشه أصبحت الحقيقة مجرد حكاية وحكم خاطئ، لكنه ضروري في خدمة تيار الحياة المتدفق كما أنها مجرد وهم نسي الإنسان أنها كذلك، فالإنسان ما كان له أن يعيش لو لم يترك الأوهام المنطقية تسوده، وكل انصراف عن هذه الأوهام هو انصراف عن الحياة وكل تأكيد عليها هو تأكيد على الحياة.

وبالتالي فإن أصل المعرفة لدى نيتشه يكمن في الرغبة والسيطرة والاستمرار في الحياة، إنها تمثلات وأخطاء أكثر منها حقائق، لذا نجده يدعو إلى حقيقة بيولوجية تستمد أساسها من النفع الحيوي للإنسان، باعتبارها قيمة في خدمة الحياة، ينظر إليها من زاوية الفائدة والمنظور وصراع إرادات القوة، فلكل طبقة منظورها الخاص للحقيقة وللقيم وللأخلاق.

موقف ويليام جيمس: الحقيقة منفعة

 ينتصب التصور البراغماتي الذي يرى أن الحقيقة ذات علاقة مع التجربة البشرية، فالمعرفة أداة للعمل، والفكر له صبغة غائية، وحقيقة فكرة ما تكمن في نفعها وناجعتها، إن قيمة الحقيقة تتجلى في نتائجها العملية، إن كانت نتائجها مرضية تزيد من نفوذ الإنسان وسلطانه على الطبيعة وعلى الأشياء فإنها حقيقية فعلا، أما إن كانت نتائجها غير مفيدة فليست حقيقية. إن القضية الصادقة هي القضية المفيدة، أو الحقيقي هو المفيد على حد تعبير وليام جيمس.

الذي يرفض التصورات المثالية والواقعية للحقيقة، فليست هناك حقيقة مطلقة، كما أنها ليست مجرد نسخة ثانية عن الواقع كما ذهب إلى ذلك الاتجاه الواقعي.  بل هي موقف وتصور يؤدي بنا إلى تحقيق غرض المفيد والنافع.

     إن قضايا العلم لا تصبح حقيقة إلا بعد خضوعها لمبدأ التحقق بواسطة التجربة، كذلك الحقيقة لا تصبح كذلك إلا حينما تثبت التجربة أنها أفكار صالحة مفيدة. فالاختراع الصناعي مثلا يتقدم بفضل فائدة العملية فقط، فإن القضية الصادقة هي التي تزيد من سلطاننا على الأشياء. لهذا نجده يقول: "إن الفكرة تصبح حقيقة وصادقة حينما يثبت بالتجربة أنها فكرة صالحة ومفيدة".

خطاطة المحور: