الاستقلالية أساس التربية الناجحة
أرقى ما يسعى إليه الإنسان في الحياة،
هو امتلاك الاستقلالية في قراراته وأفعاله باعتبارها طريقا نحو المبادرة والإبداع و المسؤولية، لذا فإن تحرير إرادة الفرد وإطلاق
قدراته على التعبير والمبادرة والفعل بمسؤولية ينطلق من تربيته على حس الاستقلالية
منذ نعومة أظفاره داخل البيت و في المدرسة، مما يساعد
الشباب على النجاح في
الحياة الشخصية والمهنية، لكننا نغفل هذا
الجانب المهم في التربية خصوصا داخل المجتمعات الذكورية التي ترى أن الطاعة
والخضوع والإتباع هما غاية التربية الصالحة بسبب سيادة المنظور الضيق لمفهوم
الطاعة المطلقة ، لكن الأهم ذلك هو تمكين الطفل والمراهق من أدوات التفكير المستقل.
يجب أن تشكل الاستقلالية هدفا محوريا
للتربية، حيث ينبغي أن تمنح الأسرة والمدرسة فرصة للطفل من أجل التمرن على تدبير
أموره بشكل ذاتي مستقل، سواء على مستوى إدراكه لذاته أو المحيط الاجتماعي أو على
مستوى الأسلوب الذي يختاره لنفسه في التواصل والتفاوض والتكيف مع المحيط إذن: ماهي
الاستقلالية الذاتية؟ وكيف تساهم في نجاح العملية التربوية؟ وماهي الأدوات
التربوية الفاعلة التي تمكننا من تعزيز ثقافة الاستقلالية لدى المراهقين والشباب؟
"تحمل المسؤولية هو أول شيء يجب على الطفل تعلمه، وهذا هو أكثر شيء سيحتاج في الحياة" جون جاك روسو.
كيف
نحقق الاستقلالية الذاتية:
من الوسائل الأساسية لتحقيق النجاح في العملية التربوية هي تعزيز
الاستقلالية الذاتية لدى النشأ، ذلك أن ‹‹الحرية هي جوهر الإنسان›› كما قال سارتر.
الحرية سترفع من إبداعية الفرد وتساعده في تجاوز الضغوط الاجتماعية، وتمكنه من
الاستقلالية في شخصية و بناء تصوراته وقراراته في المستقبل، كما أن حس المسؤولية
سيمكنه من اكتشاف ما هو مطلوب منه من جهد واستثمار لموارده مما يدعم تفتح شخصيته
وإنمائها وإطلاق طاقاته وإمكانياته. لأن "التربية الخلقية أهم للإنسان
من خبزه وثوبه" سقراط.
يقود حس الاستقلالية إلى المسؤولية،
والرفع من فعالية وقدرات الشباب، والاستعداد أكثر لمواجهة مخاوفهم، والقابلية لفهم
العالم الذي نعيش فيه، دون تبنى بالضرورة المواقف والقيم السائد دخل المجتمعات
المتخلفة، وبناء على ذلك فإن الشخص المستقل يمتلك القدرة على تدبير شأنه والنجاح
في الحياة بجميع أشكالها، في حين أن التربية التي تعزز الخضوع والخنوع والطاعة
تجعل الطفل ضعيف الشخصية وغير قادر على مواجهة العالم بنوع من الجرأة والقوة.
إضافة لذلك فإن اكتساب الاستقلالية شرط
وجودي، حيث أن الفرد في حاجة إلى التعبير عن أحاسيسه ووجهة نظره ورؤيته للأمور،
واختيار التوجهات والتصورات التي يريدها في الحياة، وامتلاك القدرة على التواصل
وتقاسم التجارب التي يعيشها في الحياة اليومية وإيصالها بأسلوبه الخاص إلى الآخرين
في سياق عملية الانفتاح على العالم الخارجي مع الحفاظ على الخصوصية الذاتية، لذلك
نرى الطفل منذ السنوات الأولى يبدأ في التعبير عن نفسه وامتلاك أشياء خاصة تميزه
عن العالم الخارجي.
كما أن الحاجة إلى الاستقلالية ليست
فردية فقط بل حاجة اجتماعية أيضا، ذلك أن المجتمع الذي يسعى إلى التطور والبقاء هو
في حاجة إلى مساهمة أفراده باعتبارهم يمتلكون إمكانيات للفعل والتأثير، لأن
المواطن الحر والمستقل يكون فاعلا حقيقيا داخل المجتمع، وأول شرط أن يكون حرا في اختياراته
وتصرفاته غير أن مدارسنا اليوم لازلت تعتمد على مبدأ التلقين والتربية تأخذ بعدا
تسلطيا هدفها تعزيز القيم السائد بدل تمكين الشباب من أدوات الاستقلالية والحرية،
وعليه فإن قدرات التلميذ تضعف لأنه لا يساهم في بناء المعارف التي تنمي شخصيته.
بدل التركيز على القيم التي تتعلق ب"الانضباط
" والأخلاق المعيارية " التي يحددها المشرفون على هذا الضبط سواء في
المدرسة أو خارجها، هاجس الانضباط يحرمنا من الاستثمار في الجانب التواصلي أثناء
تربية، لأن الفرد الغير مستقل يكون فاشلا في الحياة الاجتماعية والنفسية.
دور المدرسة في تعزيز الاستقلالية:
ومن جهة أخرى نحتاج الاشتغال على تطوير المناهج التعليمية بحيث تتكيف
مع التحولات التي يعرفها المجتمع، لأن معظم الشباب اليوم يستعملون الوسائل
التقنية، لذا فإننا التعليم الجيد يجب أن يكون سندا جيد من أجل خدمة الإنسان
وتنمية قدراته ووعيه الجمعي، لأن وسائل التواصل الاجتماعي يمكنها أن تساهم في
الاطلاع على ثقافات وقيم مختلفة تعزز المشترك الإنساني، وتوفر مساحة لنشر قيم
التنوير والتسامح والاختلاف وعقلانية وتقدم نحو الأفضل إنسانيا وحضاريا.
التربية فعل جوهري في الوجود البشري،
نتلقاها منذ الولادة ولا تنقرض بل تظل معنا بشكل مستمر، نسعى من خلالها إلى تطوير
المهارات التي تمكن النشأ من الحصول على النجاح المهني والتواصلي في الحياة، لأن
المدرسة اليوم أضحت تنمي قيم التنافس على النجاح المهني والحصول على النقطة بدل أن
تحفز الشباب على العطاء المعرفي وتعزيز قيم الحرية والاستقلالية، أضحى القدوة هم
أصحاب الشهرة السريعة من فنانين ومغنين وأشخاص لا يمتلكون أي مقومات كاريزمية تجعل
منهم رموز داخل المجتمع.
لذا من المفترض أن تروم التربية على
الاستقلالية اكتشاف وتوضيح هذه المحددات الذاتية، عبر المعنى الذي يعطيه الفرد
لتجاربه في احتكاكه بذاته ومحيطه والوعي الذي يتولد عن ذلك، الغاية من التربية أن
يكون الفرد قادرا على تحمل المسؤولية في المستقبل حينما يكبر وينضج هذا هو الهاجس الجوهري
الذي تسعى إليه التربية في عمقها الحقيقي.
خلاصة القول، من غير الممكن أن تقوم
التربية على الاستقلالية دون مساعدة من المحيط ومن المدرسة أساسا، مطلوب من
المدرسة والأسرة والإعلام أن يتعاون من أجل تكيف الجهود في سبيل تقديم إنسان ناضج
للمجتمع لديه القدرة على الاستقلالية في خياراته العاطفية والدراسية والمهنية،
وتنمية الفضول وحب الاستكشاف والاطلاع على الغريب والغير مألوف، عوض التأكيد
المفرط على الطاعة والخضوع والتبعية والاتكالية التي تنتج مواطن سلبي لا يسعى إلى
أي تنمية أو تطور في شخصيته وحياته.
ذ. أيوب الوكيلي