المحور الأول: المعرفة التاريخية
إشكالية المحور:
ما هي الصعوبات التي تحول دون بناء المعرفة التاريخية؟ هل المعرفة التاريخية تقوم على السرد والحكي أم النقد والتحليل؟ هل يمكن أن تتحقق العلمية في المعرفة التاريخية؟ هل فعلا التاريخ معرفة علمية أم مجرد فن من الفنون؟
تصور ابن خلدون:
لقد جاءت
مقدمة ابن خلدون لتأسيس علم جديد يتم بوساطة علم التاريخ من مستوى الفن إلى مستوى
العلم. حيث اتبع (ابن خلدون) منهجية الهدف
منها رفع الكتابة التاريخية من مستوى الفن الذي يقتصر فيه على مجرد النقل وسرد أخبار
الأيام والحوادث، إلى مستوى العلم الذي يقوم على النظر والتحقيق والتعليل والتفسير
وبيان كيف تقوم الدول وما يرافقها وينتج عن قيامها من صنائع وعلوم.
حاول ابن
خلدون رفع الكتابة التاريخية من مستوى الفن الذي يقتصر على النقل وسرد والحكي، إلى
مستوى العلم الذي يقوم على الموضوعية والعلمية، لأن
السرد الإخباري القصصي يقتصر بطبيعته على تتبع الحوادث في تسلسلها الزمني وحكايات
تفاصيلها بهذا الشكل أو ذاك، لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من
القرون الأول.
أما
التحليل العلمي لنفس الحوادث يحتاج إلى نظرة أشمل وأعمق تجعل من التاريخ دراسة
استقصائية للأحداث التاريخية الأساسية أو ما يرافقها أو ينتج عنها من ظواهر
عمرانية، اجتماعية واقتصادية وثقافية.
والمنهج
الذي يراه متلائما هو المعرفة الدقيقة بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف
الأمم والبقاع والمصائر في السير والإخلاف والعوائد والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة
بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من
الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف. وبالتالي فإن ابن
خلدون نقل التاريخ من المستوى الخيالي القصصي إلى مستوى العلم الذي يقوم على منهج
نقدي صارم.
المناقشة: تصور هنري مارو
التاريخ في
نظره معرفة بالماضي تقوم على منهج علمي صارم، وليست سردا أو حكيا للأخبار إنه
معرفة علمية، لحوادث الماضي. هذا يعني أن
الخلاصة التي اختصرت نهج المؤرخ وليس الدراسة التي يقوم بها لأن ما يهم هو
"حصيلة النتائج التي يتوصل إليها المؤرخ لا البحث الذي يقوم به، فالمهم
الغاية لا الوسائل.
إن الحقيقة
التاريخية هي حقيقة يبينها المؤرخ بواسطة منهج صارم ودقيق، وذلك بتجنب المؤرخ
البحث فيما يجب أن يكون والبحث فيما هو كائن وتجنب جميع أنواع الحكايات الأسطورية
والأعمال الأدبية والقصص التربوية.
وهكذا فالبحث
المنظم والقطع مع كل المعارف اللاعلمية والعامية تؤدي بالمؤرخ إلى إنشاء وبناء
معرفة تاريخية متينة تتشكل تبعا لمنهج منظم ودقيق وصارم.
ريمون أرون
من جهة أخرى
يرى أرون أن عائق المسافة الزمنية في تحديد المعرفة التاريخية، صعبة لأنها تنفصل
عن تجربتنا في الزمان والمكان. وبذلك فتحقيق الموضوعية في مجال العلوم الإنسانية،
باعتبارها شرط جوهري في دراسة التاريخ، تشكل عائقا أمام فهم الطريقة التي يسير بها
التاريخ.
نظرا لصعوبة فصل الذات عن الموضوع، لأن عملية
الفهم تحتاج إلى تداخل بين الذات والموضوع في عملية التفسير والتأويل وترتيب
وتركيب الحوادث. كما أنه لا يمكن للمؤرخ القيام بعملية تعميم، أي أن ينطلق من
واقعة خاصة ليصدر من خلالها أحكاما عامة تنطبق على جميع الوقائع. لكن ما يضفي قيمة
على المعرفة التاريخية هو عملية النقد المستمر.