المحور الثالث: المجتمع والسلطة:
الطرح الإشكالي:
يتأسس كل مجتمع في جوهره، على أسس وقوانين وقواعد تعمل على تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات، تسهر على حفظ هذه الأخيرة وضمان استمراريتها، حيث تنقسم هذه المؤسسات إلى مؤسسات إيديولوجية "كالأسرة، المدرسة، التقاليد، الأعراف، وسائل الإعلام..." ومؤسسات زجرية "الدولة، الجيش، الشرطة..."، وإذا كان المجتمع يتوقف وجوده وبقاءه على مجموعة من المؤسسات كالقوانين والمدرسة، فإن الفرد يؤسس تواجده الاجتماعي على أساس مؤسسة الدولة. فإن هذا الأمر سوف يدفعنا إلى طرح جملة من التساؤلات: كيف يمارس المجتمع سلطته على الأفراد...؟ وما تجليات هذه السلطة؟ هل سلطة المجتمع مقيد أم مطلقة؟
تصور ألكسيس
دو توكفيل: Tocquville 1805/1859
إن نظرة فاحصة لمضمون النص تؤكد على تصور لعلاقة السلطة بالمجتمع، خصوصا المجتمعات الحديثة ذات المنحى الليبرالي، إنها سلطة مؤثرة تتحكم في الأفراد وتوجه مسار حياتهم، على المستوى التواصلي والحضاري، حيث يرى " ألكسيس دوطوكفيل" أن المجتمع يمارس سلطة جبارة ومطلقة على أفراده، سلطة اجتماعية مختلفة تماما عن نمط السلطة السياسية متمثلة في الاستبداد والاضطهاد الذي كان سائدا في القديم، هذه السلطة عملت على تنميط الأفراد وجعلهم حشودا متشابهة ومنعزلة ومتساوية وبدون إحساس بالغير.
إنها السلطة التي تجعل الأفراد منشغلا فقط بذواتهم وحصر دائرة الاهتمام والتواصل لديهم في الأسرة والأصدقاء، باعتبارهم يمثلون كل النوع البشري وهذا ما يسميه دوطوكفيل بالنزعة الفردية. حيث يميز بين النزعة الفردانية وفكرة الأنانية، لأن الفردانية هي استقلال للذات ناتج عن التطور الديمقراطي الذي يمنح للفرد حرية التصرف وفق إرادته دون المساس بالآخرين، فهي إذن تصرف عقلاني يجعل الفرد يختار عالمه الخاص، فالمجتمع في هذه الحالة هو أشبه بتجمع بشري لأفراد.
هنا تفتقد كل دلالة إنسانية عميقة، وعلى رأس تصبح سلطة الذات والمتعة هي
كل شيء، لا يوجد مشترك يشتغلون عليه جماعة، لهذا نحتاج إلى سلطة لمساعدة هؤلاء
الأبناء على إنضاج شخصيتهم، أو بعبارة أخرى على إسعاد مواطنيها، بل تجعلهم مجرد توابع.
لها ليس إلا، فهي الحكم والفاعل الوحيد، فعبر قنواتها المؤسساتية المختلفة.
هكذا ينتهي النص إلى التأكيد على أهمية سلطة المجتمع في تنظيم حياة الناس
داخل المجتمع، لكن هذه السلطة قد تصبح ذات تأثير سلبي على أفراد المجتمع ومحبطة
لعزائمهم، بل محولة لهم إلى كائنات، غريبة في طباعها وتصرفاتها ونظرتها للحياة، لا
هم لها إلا إشباع ملذات صغيرة ومبتذلة.
المناقشة: القيمة الفلسفية:
إن ما قدمه توكفيل من تصور حول سلطة المجتمع الحديث، الغربي على الخصوص،
له أهمية الفكرية والتاريخية، فقد نبع هذا التصور من تجربة سياسية خاصة، لأنه تدرج في مناصب سياسية مختلفة إلى أن أصبح سنة 1839 وزيرا للخارجية الفرنسية،
كما أن زيارته السابقة للولايات المتحدة الأمريكية ما بين أبريل 1831 ومارس 1832،
منحته تصورا واضحا لما سيؤول إليه النظام الديمقراطي الليبرالي الحديث في فرنسا،
فألف كتابه المشهور" De la
démocratic en Amérique " الذي بوأه مكانة هامة في أكاديمية العلوم
السياسية والأكاديمية الفرنسية، ليصبح بعدها وزيرا للخارجية، وقد دافع في حياته
على مجموعة من الإصلاحية السياسية، كعدم مركزية السلطة واستقلال القضاء، وقد وجد
تفكيره هذا حول استبدادية السلطة السائدة في المجتمعات المسماة ديمقراطية، صدى لدى
العديد من المفكرين المعاصرين، نذكر منهم على سبيل المثال.
لكن هل يمكن القبول بهذا التصور کحل الإشكالية سلطة المجتمع؟ هل فعلا أن سلطة المجتمع الحالي لا تعمل إلا على تعميق الهوة بين الأفراد والزيادة في قلقهم وشقاء عيشهم، أم أن الأمر عكس ذلك ؟
موقف سيغموند فرويد Freud (1856-1939):
ينطلق فرويد من أطروحة أساسية مفادها أن المجتمع يمارس نوعا من القهر
الاجتماعي على الأفراد، من خلال آليات التنشئة الاجتماعية المتمثلة في التربية
والبيئة، عن طريق تدخل النظام الأخلاقي يمارس قهرا على الفرد، يمارس المجتمع قهرا على الفرد يجبره من
خلاله على الخضوع لنظام دخيل على طبيعته، تشعره بالاغتراب، وهو ما ينعكس سلبا على
تكوين شخصية الفرد.
حيث يمثل الأنا
الأعلى سفير الأخلاق المجتمعية في الشخصية الإنسانية يقوم بمهمة الضمير الأخلاقي
الذي يراقب أفعال الأنا ويفرض عليه المعايير التي يتعين عليه اتباعها في سلوكه وكل
تهاون من الأنا في الاستجابة لمتطلبات الأنا الأعلى يقود هذا الأخير إلى تسليط
مشاعر التوتر والدونية والقلق.
هكذا يجد الفرد
ذاته مجبرا على الاختيار بين أن يقوم بأوامر المجتمع، وإما أن يتمرد فيتلقى العقاب
والتوتر والقلق والانتقاد والتأنيب والتعذيب. فالتوجيهات الأسرة والمجتمع التي
تطبق على الطفل في الخارج يعيد تكوينها داخل عقله كعوامل مانعة قوية، فتحدث عملية
توحيد تندمج بواسطتها مع أوامر المجتمع. إذن فإن المجتمع هو المسؤول عن سلوكيات للأفراد
المنضوين تحته.
موقف رالف لينتون R.Linton
يعمل المجتمع على الاستجابة لحاجات الأفراد، وفي نفس الوقت يعمل على ترسيخ
النماذج الثقافية من خلال التنشئة الاجتماعية، وهكذا يعتبر رالف لينتون أن عملية
التنشئة الاجتماعية تتم عبر "طعم الإشباع" فالمشرفون على هذه التنشئة
يقدمون للفرد إشباعا مباشرا لغرائزه وحاجاته، وفي نفس الوقت يمررون له العادات
وأنماط السلوك والمعتقدات.
يعمل المجتمع على وضع نماذج للفرد تستجيب لحاجاته الضرورية، فيوجه سلوكه وفقها، فهذه النماذج هي وسيلة لإقحام الفرد في النظام الاجتماعي السائد، والذي يحدد طرق الأكل أو الملبس أو غير ذلك. وبناء على ذلك، يستدرج المجتمع الفرد نحو الخضوع للنظام السائد، وحتى يعيش وفق الثقافة الاجتماعية ويلتزم بتعاليمها. ومن أجل ذلك يعمل المربون خلال التنشئة الاجتماعية على تلقين الناشئة الأنماط المقبولة للسلوك، متخذين حاجات الأفراد كطعم يتم خلاله تمرير هذا النظام المعد سلفا.
تركيب:
يتبين من خلال تحليل ومناقشة إشكالية السلطة
والمجتمع، أن السلطة مهمة داخل كل مجتمع، لأنها تعمل على تنظيم العلاقات بين
الأفراد، وتضمن مصالحهم الذاتية والجماعية، وتعزز التعاون والأخوة، لكنها من جهة
أخرى يمكن أن تكون مصدرا إزعاج وتأثير سلبي على الأفراد من خلال العنف والقوة التي
تفرضها على الأفراد وتمنعهم من الاستقلالية والحرية. يتضح أن للمجتمع وظيفيتن: الأولى
هي إخضاع الأفراد لسلطته إذ يمارس المجتمع مجموعة من الضغوط والإكراهات ومحاولة
دمج الفرد في هوية الجماعة، لكن الوظيفة الثانية على النقيض من ذلك إذ يحاول
المجتمع أن يلبي ويستجيب لحاجيات الأفراد وتعليم الفرد المبادئ الأساسية والأولية
التي تجعله ينسجم وينصهر داخل المجموعة مع الحفاظ على حريته واستقلاليته.