التعلم وتطوير المهارات التعلم وتطوير المهارات
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...

رهان الأشكلة والمساءلة في تدريس الفلسفة

مدخل: التساؤل فعل جوهريا في الإنسان:




 الأشكلة فاعلية فكرية تتمثل في بناء قضية فلسفية، انطلاقا من الوعي بمفارقة، أو من إدراك خطأ أو من اندهاش يحصل بفعل الانتباه إلى الموجودات والأشياء، والمشكل بصورة عامة يدل على معضلة ترتبط بالنظر (المعرفة) أو بالعمل (الممارسة)، إنه يعني أزمة، أي وضعية حرجة ومقلقة تفقد معها الحلول والأجوبة الجاهزة كل وجاهة، وهكذا يكون المشكل عبارة عن انتباه إلى اللامفكر فيه، إن اللامفكر فيه هو أننا نستطيع التفكير في القليل الذي نفكر فيه بلغة برجسون.

لأن الإنسان "كائن تساؤلي" بامتياز، ولنتأمل الأطفال كيف يحولون العالم إلى سيل من الأسئلة، التي لا تعرف حدودا ولا ممنوعا، إنهم كائنات تعبر عن طبيعتها الوجودية كطبيعة فاعلة، تخترق حجب المجهول بسيف السؤال، وبهدف المعرفة. لماذا نتساءل بصدد معنى الحياة والموت، عن أصل الأشياء ومألها، وعن الخلود والفناء، وعن السعادة و الشقاء، وعن الخير والشر..، إن أهمية هذه التساؤلات تكمن في حثنا على التفكير، بل وفي حسن توجيه فكرنا نحو فهم أفضل لذواتنا، وللعالم،  لأنه يجب علينا أن نفكر بشكل أفضل، حتى نكون جديرين بالانتماء لجنس الإنسان، وحتى نتميز بشكل فاعل عن المخلوقات الأخرى التي تقتسم معنا مكانية العالم وزمانيته. 

من هذا المنطلق فإن التساؤل  وطرح الإشكالات يعد من أهم الرهانات الأساسية التي يسعى الخطاب الفلسفي إلى تحصيلها وتأطيرها، من أجل تتبع القضايا والرهانات الفلسفية التي تميز كل مرحلة تاريخية عن الأخرى، ذلك أنه توجد علاقة بين السياق التاريخي وأنماط التفكير الفلسفي. وعليه فإن التساؤل ينطلق من خلال رصد ومساءلة المفاهيم التي نحمل تجاه الواقع والمحيط الذي نعيش فيه، نتيجة للعلاقة الموجودة بين المفاهيم التي تمكننا من طرح عدة تساؤلات. لأن كل  إشكال الفلسفي يرتبط بالسياق المعرفي الذي ينتج الخطاب ويعطيه أبعاد فكرية تدخل في غمار التجارب والقضايا التي يعايشها الإنسان، فهي تختلف من سؤال للآخر، كما أن الإشكالات الفلسفية تتداخل فيها أبعاد وأنماط مختلفة ومتنوعة، يمكن رصدها من الزاوية الأخلاقية، أو السياسية أو الجمالية، أو الميتافيزيقية.

و إذا كان الدرس الفلسفي مسارا تأمليا خاضعا لنموذج عقلاني، يدفع المتعلم والأستاذ إلى المناقشة والتفكير النقدي والعقلاني، فإن هذا المقال هو محاولة لرصد  بعض الأبعاد الأساسية  في عملية الأشكلة داخل الممارسة الفلسفية.

ماهي الأشكلة في الممارسة الفلسفية؟

تعريف الأشكلة: اليونانية "Problema"، عائق، سؤال مقترح، مشكل فلها معنيان: في دلالتها الأساسية تعني مجموعة من المشاكل المتعلقة ببحث فلسفي أو علمي، أما على المستوى المدرسي فإنها سعي المدرس إلى صياغة سلسلة من الأسئلة المنظمة والدالة تؤدي إلى حل مشكل وإلى صعوبة أساسية محايثة للأسئلة، أي سؤال السؤال بمعنى ما.

 كما يشير لفظ الإشكالية في معجم روبير إلى "فن وضع وطرح المشاكل، كما تشير أيضا إلى أن وضع الأسئلة الملائمة ويحددها ديكارت بما اسماه "التفكير ذاتيا وتدشين مسألة تنطلق من الشك المنهجي الجذري في جميع الآراء واليقينيات"، والمشكلة كما نجدها في المعاجم الفلسفية هي: "المعضلة النظرية أوالعلمية التي لا يتوصل فيها إلى حل يقيني، وهي ترادف المعضلة، التي تعني: حالة لا تستطيع فيها وضع إجابة محددة، وهي تفيد معنى التأرجح بين موقفين بحيث يصعب ترجيح احدهما على الأخر.

أما الدلالة اللغوية لكلمة "مشکل"، تحيل في عمومها إلى وجود سؤال أو جملة أسئلة، سواء كانت ذات طابع نظري أو عملي، تؤسس قوام المشكل المطروح، ويتوجب إيجاد حل لها، باعتبارها تمثل صعوبة ما، يتعين على من تعترضه أن يعتمد منهجية عقلانية ومنطقية لتجاوزها: بهذا المعنى يمكن القول أن الأشكلة فن أو علم وضع الأسئلة، (التساؤل)، إنها مجموعة من المشاكل التي تترابط عناصرها نموذج إشكالية المعنى.

استخلاص وصياغة المشكل يتم عبر توظيف آلية المساءلة من خلال: البحث عن المفارقة، paradoxes وإبراز التقابلات المطروحة في المشكلة أو القضية، Oppositions-ثم الإشارة إلى الاختلافات،contradictions التي تطرحها القضية الفلسفية التي نحن بصدد البحث فيها.

 الأشكلة في الدرس الفلسفي:

      يحيل معنى الأشكلة في الدرس الفلسفي، إلى ضرورة بناء حقل مفاهيمي استفهامي، لا يعني فقط أن نتساءل، بل أن نرتقي انطلاقا من مجموعة من الأسئلة المنظمة قصد تحديد بعض المعاني والدلالات الجديدة المختلفة عن السابق. من خلال جعل الموضوعات الثابتة  والبديهية، موضع التساؤل والقابلية للنقد، ثم  تفكيك المشكل،  حيث تصبح الأشكلة هي مساءلة السؤال ذاته، و الكشف في ما وراء هذا السؤال عن هذا المشكل أو عدة مشاكل فلسفية، وبعدها صياغة الإشكالية، حيث تطرح فيه المشكلة بصيغة تعارضية لإبراز الخاصية الحوارية لفكر لا يبحث عن حلول نهائية، بل عن أجوبة ممكنة.

 ونظرا لأهمية الأشكلة في الدرس الفلسفي، فعلى المستوى المنهجي فإن عملية الأشكلة تتطلب ثلاث مستويات، تساعد التلاميذ في تملك أدوات التفلسف:

1) المساءلة: و تعني جعل تأكيد ما ( بديهية أو تعریف ) أمرا إشكاليا و مشكوكا فيه؛ أي     وضعه موضع سؤال، الشيء يمكن المتعلم من تجاوز الأحكام الجاهز.

 2) اكتشاف مشكلة فلسفية: انطلاقا من مدلول أو في العلاقة بين بعض المفاهيم، أو خلق سؤال.

 3) صياغة تلك المشكلة بشكل تناوبي: أي بشكل يمكن من الحصول على عدة إجابات.

الشيء الذي يقود إلى أبعاد  التفلسف  داخل عملية الأشكلة التي تتم من خلال ثلاثة رهانات أساسية:

·       تتابع الأسئلة المنظمة التي تكشف عن عدم شفافية الموضوع.

·       طرح التساؤلات كتقنية وكآلية تخضع أي موضوع للمساءلة والنقد.

·       إبراز مشكل مركزي لا يمكن تجاوزه.

الفلسفة كحق في المساءلة و النقد:

يمكن القول أنه، لا وجود للمشاكل، دون إشكاليات، إضافة لذلك فإن أن فعل الأشكل له معاني عميقة، يشير إلى تواتر متبادل بين المشاكل و الإشكاليات، التي تمنح لهذه العقدة شكلا، و التي يجب عليها أن تبين على الأقل بأن تكوين مشكل و كيفية تكوينه يتوقف على كون مشاكل أخرى يمكنها بدورها أن تؤثر و تغير فيه، هكذا فتكوين إشكالية ما يقتضي دوما حضور مشكل.

ومنه يمكن القول أن الفلسفة هي ممارسة إشكالية ترصد التحديات والصعوبات التي يوجهها العقل، حيث تطرح عليه جملة من المفارقات التي يصعب عليه الإجابة عليها، فالفلسفة من حيث هي ممارسة استفهامية هي عمل مشكل دوما ولا يعرف حلولا صارمة، وإنما لا يعرف أجوبة فقط، أجوية تشكل بدورها دائما موضوعات لمشاكلها.

بهذا المعنى فإن صفة الإشكالية تنبثق من العلاقة بين الخطاب و المشكل، لكن هذه العملية وثنائية اللغة ليست عملية طبيعية، فهي تتطلب مساعدة عنصر آخر هو السياق الذي يجعل للاختلاف الإشكالي فعليا، و يضمن بذلك انبثاق ما هو إشكالي في سياق الخطاب الفلسفي. و إن فعل التفلسف في أساسه مساءلة و استنطاق و حفر و خلخلة، و هي عمليات لا تقتصر ما له على موضوع المساءلة المتمثل في مختلف القضايا الفكرية و المجتمعية، باعتبارها كذلك، فإنها لا تنتظر جوابا نهائيا بقدر ما تنخرط في عملية. وبالتالي فإن الميزة الأساسية للفلسفة هي ترجمة السؤال إلى إشكالية، أي رفض كل إجابة نهائية، لأن كل إجابة هي بالتالي استجابة و إنصات و تحاور.

 الدرس الفلسفي باعتباره فضاء للممارسة النقد والتساؤل:

 يمكن القول أن الدرس الفلسفي يتميز بخصوصية غير مسبوقة،  لأن مجال للحرية والمساءلة،  والقدرات والإمكانات الذاتية للمتفلسف، لأن الغاية من درس الفلسفة ليس تلقين المضامين أو معارف محددة، بل هي تعلم كيفية التفكير في معنى المضامين التي نشتغل عليها على المستوى العقلي، وهي أيضا مناسبة لممارسة الإنصات والتحاور و التساؤل، ذلك أنه لكل شخص القدرة على التواصل بأسلوبه الخاص والحر بدون قيود تحده أو تؤطره.

درس الفلسفة بمثابة إنجاز دائم التجدد، لأنه يقوم على المساءلة المستمرة بغية إزالة البداهة عن الأفكار السائدة داخل المجتمع، ذلك أنه لا يرصد معطى جاهز إنما يقدم لنا رؤية نقدية للواقع، سعيا منا إلى البحث عن رؤية متكاملة في الحياة. بناء عليه نتعلم تجاوز الأفكار الجاهز، لهذا فإن التفلسف هو تأمل الذات في علاقاتها مع العالم و مع الغير و مع ذاتها، فهو بمثابة إقامة داخل عالم التساؤل المستمر الذي لا يتوقف.

التفكير الذاتي  جوهر عملية الأشكلة:

   تتشكل عملية التفكير الذاتي، من خلال تمكين الذات من مزاولة المساءلة و النقد و إثبات الأطروحات ودحض الآراء و محاولة حل المشاكل التي تعترض الفكر. الأمر الذي يساهم في تنمية شخصية الفرد وتعزيز انخراطه في الحياة ويصبح فاعلا في الدراسة ومقاربة الصعوبات والتحديات التي يمر بها بشكل عقلاني.

  وبالتالي فإن الدرس الفلسفي هو مجالا للتفكير الذاتي و لممارسة حرية التأمل والتساؤل النقدي هو تدعيم للنشاط الذاتي للمتعلم الذي يشعر من خلال حرية إبداء الرأي بوضعه  باعتباره مواطن مسؤول وفعال داخل المجتمع، أثناء مناقشة ومقاربة القضايا والتحديات التي يواجهها.

لأن الفلسفة  تمثل مجال بحث يسعى إلى مساءلة الرأي في اتجاه ضبط الحقائق، تعلمنا الحوار على أساس قاعدة التناقض والاختلاف، وبناء الأحكام عوض الاكتفاء بترديدها، وتكوين فكر نقدي هو في أبسط تجلياته تعبير عن أسمى مظاهر الحرية الفكرية والوجودية، نحن مجبرون على ممارسته شفهيا وكتابيا.

من هذا المنطلق تتحدد قيمة الحوار والتواصل مع النصوص الفلسفية، المرتبطة بالفكر الإنساني،  الشيء الذي يساعد في تحرر الدماغ من مستوى التخلف الذهني إلى مستوى الإنجاز الفكري والحضاري والعقلي الذي يؤطر الإنسان. و ذلك هو المعنى العميق الذي يحمله مفهوم النقد في الفلسفة كممارسة فكرية تحمل في طياتها إمكانية التفاهم والتحاور، و يتجلى النقد باعتباره وسيلة لمساءلة الأفكار والتمثلات. ومنه فإن الحق في المساءلة و النقد، لا يعني الإقصاء و النفي و ممارسة العنف باتجاه الآخر المخالف لنا، بقدر ما يعني حرية التفكير في إطار الانفتاح و التسامح.

خلاصة:

حاصل القول أن الأشكلة، هي فن إبراز المشكلات أو طرح التساؤلات الفلسفية الكبرى كموضوع للتفكير الذاتي، ذلك أنه لا يكفي أبدا و تبعا لنوعية التلاميذ أن نلقنهم معارف، ومعطيات جاهزة، لأن  المعارف لا تصبح إجرائية إلا إذا تفاعلت مع أبعاد المجتمع، وذلك عن طريق خلخلة التمثلات والاعتقادات التي تؤطر سلوك الأفراد في الحياة.

ذلك أن الأشكلة هي فعل ذاتي يقوم به التلميذ، يأخذ الأستاذ موقع التلميذ لكي يفهم تعلم الإشكالية من زاوية نظر التلميذ، و لكي يفهم بدرجة ثانية مجموع السيرورات الذهنية و النفسية التي يحركها التلميذ في وضعيات التعلم بشكل عام. لأن الأشكلة بمثابة اقتحام لفعل التفلسف الذي يسكننا كمشكلة مفتوحة، لأننا نشعر بالضرورة الوجودية التفكيرية الملحة، و تحمل تجربة المواجهة كتأسيس لوضع و موقف، وجودي أصيل.

بهذا المعنى فإن عملية التدريس الناجحة تتطلب الخروج من دائرة الراحة والقدرة على التعلم الذاتي، و التخلي عن دور الحكيم و الأستاذ و نصير مرافقين و منشطين، ونمسك بيد التلميذ على طريق التفكير عوض أن نسير أو نفكر بدله، وبهذا المعنى يكون الدرس الفلسفي تمرينا أصيلا في تعلم التفلسف والنقد بالمعنى الوجودي.

المراجع المعتمد:

 الدرس الفلسفي والأشكلة    https://shortest.link/1M7S

        المقاربة بالكفايات في تدريس الفلسفة :  ميشال طوزي ترجمة عز الدين الخطابي 

        مجلة مؤمنون بلاحدود:   https://shortest.link/1HFG

      الفلسفة والتدريس بالكفايات في التعليم الثانوي التأهيلي: محمد أعراب

      مجلة مؤمنون بلا حدود: https://shortest.link/1Mb6


  

عن الكاتب

ayoub loukili

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

التعلم وتطوير المهارات