الدماغ مثل الصندوق:
دعنا ننظر إلى الدماغ وكأنه صندوق عدة، فكلما كان الصندوق في حالة
جيدة، كان يحتوي جميع الأدوات التي نحتاجها للقيام بالمهام المطلوبة، فإذا كنت
تريد أن تخلع مسماراً حتماً فإنك تحتاج إلى خلاعة المسامير، وإذا لم تجدها في
صندوق العدة، فإنك ستتناول مفتاحاً يساعدك في ذلك، وإذا كان المفتاح غير متوفر
فربما تحاول خلع المسمار بكماشة.
إذن كلما كان الإنسان هادئا ومتفهما تمكن من تجاوز الصعوبات والتحديات
بكل أشكالها، لأنه حينما أفكر في نفسي توجد علاقة بين ما أراه حول نفسي وما يوجد
في الواقع.
لهذا احتار
العلماء في تعريف الوعي ولكن دعنا نكتفي بعقد مقارنة بسيطة لتساعدنا في إدرك مفهوم
الوعي، فعندما تكون يقظاً فأنت واعٍ، وعندما تكون نائماً فأنت غير واع.
يشبه الدماغ المدينة فينشأ العمل الكلي للدماغ من التواصل المتشابك
لأجزائه الكثيرة جداً، ورغم أن هناك رغبة دائمة في تحديد وظيفة كل منطقة من مناطق
الدماغ على شكل مُبسط هذه المنطقة تقوم بكذا ولكن رغم هذه المحاولات كلها عبر
التاريخ الطويل للبشرية فقد تبيّن أن الدماغ لا يمكن أن يُفهم على أنه حاصل مجموع
النشاط في وحدات محدّدة بشكل دقيق.
وعلى خلاف ذلك ينبغي التفكير في الدماغ على أنه مدينة، فلو قدر لك أن
أطول أبراج المدينة، وتسأل نفسك (في أي المناطق مسؤولاً عن الاقتصاد؟ ستجد أن
سؤالك قد ذهب دون إجابة؛ لأن الاقتصاد ينشأ من تفاعل جميع العناصر المكونة له من
المحلات التجارية والبنوك والتجار والمستهلكين).
وهكذا هو الحال بالنسبة لعمل الدماغ، فليس هناك منطقة واحدة مسؤولة عن
وظيفة مُعيّنة، وليس هناك خانة في الدماغ تعمل بمفردها في الدماغ وفي المدينة كل
شيء ينشأ من حاصل تفاعل مكوناته في جميع الجوانب. بهذا المعنى فإن نشاط الدماغ تكاملي تفاعلي لا يكمن أن
نرى جزء منفصل عن الأخر بل هو عملية مركبة ومعقدة.
في الحقيقة يُؤلّف الدماغ واقعاً خاصاً به حتى قبل أن يستلم المعلومات
من العينين أو من بقية الحواس الأخرى، وهذا ما يُسمّى «النموذج الداخلي». والأساس الذي يقوم عليه هذا النموذج يُمكن
مشاهدته عند تشريح الدماغ، وترتبط معظم المعلومات الحسية من هنا في طريقها إلى
منطقة القشرة الدماغية الخاصة، عن
العالم الخارجي، فإنه يستمر في تكوين خيالات عن العالم الخارجي، حتى لو اختفى
العالم كله، فإن الدماغ سيبقى يضع له افتراضاً في داخله.
وبالطبع لا يُكلفك كثيراً أن تعثر على غرفة حرمان حسّي لك، فكل ليلة
عندما تذهب إلى النوم، يكون لديك خبرات بصرية غنية جداً، فحتى عندما تُغمض عينيك،
فإنك تستمتع في عالم ملوّن وغني بالأحلام، تعتقد أنت بواقعه بكل تفاصيله.
نحن نُشاهد ونرى توقعاتنا
عندما تمشي في أحد شوارع المدينة، فإنك تعرف تلقائياً كيف تكون
الأشياء دون أن تُقلب التفاصيل، ودماغك يكوّن افتراضات حول ما ترى بناء على
النموذج الداخلي، الذي بناه منذ سنوات من الخبرة في المشي في شوارع المدينة، وكل
خبرة تكتسبها تُسهم في دعم النموذج الافتراضي لدماغك.
وبدلاً من أن تستخدم حواسك لكي تبني باستمرار واقعك من الصفر في كل
لحظة، فإنك تقوم بعقد مقارنة بين المعلومات الحسية مع النموذج الذي يكون دماغك قد
ألفه، ثم تتم عملية تحديثه وتنقيحه وتصحيحه والدماغ ماهر جداً في هذه المهمة، بحيث
تشعر دائماً أنك لا تعي ذلك، ولكن في بعض الأحيان وتحت ظروف محدّدة يمكنك الشعور
بهذه العملية أثناء حدوثها.
ما هو
النموذج الداخلي للدماغ:
النموذج الداخلي للدماغ مشهد أقل وضوحاً ولكنه قابل للتحديث يمنحنا
النموذج الداخلي للعالم الخارجي الإحساس بالبيئة المحيطة، وهذه مهمته الأساسية: هو
التجول في العالم الخارجي وما بقي غير معروف عن هذا الجهاز هو كمية التفاصيل التي
يُهملها الدماغ، فقد نتوهم أن دماغنا يأخذ صورة طبق الأصل للعالم الخارجي بكامل
تفاصيله، ولكن التجربة بينت عكس ذلك، وخاصة التجارب التي أجريت في الستينات من
القرن الماضي.