نظريات التعلم : النظرية البنائية
النظرية البنائية ، نشأتها ، مفهومها ، مبادئها وتطبيقاتها التربوية
ظهرت نظرية التعلم البنائية في منتصف القرن العشرين، وتطورت بفضل مساهمات جان بياجي (Jean Piaget / 1896-1980)، الذي يعد أحد أبرز رواد هذه النظرية التي أحدثت ثورة عميقة في مجال علم النفس المعرفي (Psychologie cognitive)، هذا المجال الذي يشكل أحد فروع علم النفس العام، حيث اختص هذا المجال بدراسة، اختص بدراسة العمليات العقلية الكبرى كالانتباه والذاكرة والإدراك والذكاء...إلخ.
نظرية التعلم البنائية: نموذج بياجي
اعتبر بياجي أن التعلم مرتبط بالنمو المعرفي للفرد، وأن معظم نظريات التعلم أغفلت عاملا أساسيا في هذا التعلم الذي يسميه "الموازنة"؛ أي الموازنة بين استيعاب معطيات الواقع ذهنيا ضمن نشاط الذات وملاءمة تلك المعطيات مع خطاطات وبنيات معرفية، مما يفسر قدرة الفرد على التفكير واكتساب المعارف والخبرات وحل المشكلات.
مفهوم "الموازنة": (Equilibration)
المقصود ب"الموازنة"
هي القابلية الفطرية لتهيئة وتوظيف الفرد لإمكاناته ومكتسباته من أجل التكيف مع
البيئة من حوله، بشكل يحقق التعلم. هذا التعلم لا يأتي فقط من تأثير معطيات الواقع
(الناس والأشياء) بل أيضا بفعل الموازنة التي هي قدرة فطرية موروثة.
تحتاج هذه
المسألة إلى أمرين أساسين الموازنة المعرفية (Equilibration cognitive)، حسب بياجي، نوعين من
العمليات هما:
* الاستيعاب (assimilation):
الاستيعاب عملية سيكو- معرفية تسمح للفرد بفهم وإدراك معارف
وخبرات وقيم... جديدة وتعديلها أو تحويلها لكي تتناسب مع بنيات معرفية سابقة، أي
تكييف لمعطيات الواقع الخارجي مع البنية المعرفية القائمة، واستخدامها في حل
مشكلات جديدة مماثلة لمشكلة سابقة، عن طريق الإدراك والفهم والتنظيم والتخزين
والتوظيف...
* الملاءمة (accomodation):
الملاءمة عملية
سيكو- معرفية تسمح بتعديل أو تحويل البنيات العقلية وأنماطها المعرفية
الحالية، لكي تتكيف مع مطالب البيئة الخارجية للفرد. الملاءمة إذن عملية تعديل أو
تحويل للمخططات العقلية (Schèmes mentaux)[1] الموجودة
عند الفرد خلال مواجهة مشكلات وخبرات جديدة.
وعليه فإن الاستيعاب والملاءمة فعل وفعالية عقلية، تتم من خلال التكامل المستمر مدى الحياة، يعملان معا وفي نفس الآن على إكساب الفرد المعارف والتجارب، من أجل تحقيق تكيفه مع محيطه، مما يؤدي بالضرورة إلى تحقيق التوازن المعرفي باعتباره مؤشرا على التعلم.
سيرورة التوازن السيكو - معرفي:
- المكتسبات السابقة للفرد (معارف ومواقف وخبرات...) تحقق له توازنا
سيكو- معرفيا؛
- مواجهة المعطيات الجديدة المختلفة عن السابقة تؤدي إلى صراع سوسيو -
معرفي يفقده التوازن؛
- استيعاب المعطيات الجديدة بشكل يتوافق مع البناء المعرفي السابق، يؤدي إلى تعديل هذا البناء مما يحقق توازنا جديدا.
المخطط العقلي (Schème mental):
المخطط هو نمط منظم من التفكير أو السلوك يسوغه
الفرد وهو يتفاعل مع بيئته، وقد يكون المخطط سلوكيا أو معرفيا.
يتوفر الفرد على خبرة سابقة وفق مخطط موجود،
وعندما يقابل خبرة جديدة لا تتلاءم وهذا المخطط الجاهز، يعمل هذا الفرد على
استيعاب هذه الخبرة الجديدة مع مخطط موجود، ثم تغيير هذا الأخير من أجل تحقيق
التوازن المعرفي (Equilibre cognitive).
الاستيعاب، عند بياجي، ما هو إلا هذا
المخطط العقلي الذي يبنيه الفكر عن عالم الناس والأشياء، وذلك بوساطة اللغة
والرموز وغيرها... والمخطط هو أيضا نموذج سلوكي منظم يمكن استعماله استعمالا
قصديا. وينسجم المخطط مع مخططات أخرى لتشكل أفعالا تنمو وتتطور بحسب السيرورات
النمائية للفرد، إذ تنطلق مما هو حسي حركي لتصل إلى ما هو مجرد.
مثال: "رمي الكرة"
المخطط الأول:
الطفل يحاول لأول مرة رمي الكرة بدون قصد؛ (فعل سلوكي)
ينمو هذا المخطط
وفق السيرورات النمائية للفرد: فتجد لاعب الكرة يرمي الكرة تجاه المرمى (فعل
سلوكي) ولكن بنية تسجيل الهدف (القصدية). وفق مخطط معقد:
يصوب قدمه
(يرجعها إلى الخلف قليلا أو كثيرا بحسب الوضعية) + يبتعد قليلا أو كثيرا + يقذف
الكرة بباطن القدم أو مقدمته (بحسب الوضعية + ينظر تجاه المرمى + يحسب التوقعات +
يستخدم التمويهات...
وهذا المخطط
يختلف من لاعب إلى آخر، وهذا الاختلاف هو الذي يجعل اللاعب يتميز عن غيره... لهذا
فالمخطط هو عقلي ينم عن ذكاء، لكنه يتضمن أفعالا سلوكية حركية.
حيث يحقق الفرد
في كل مرحلة توازنا معرفيا، لكن تصادفه في نموه مشكلات معرفية، لا تسعفه
أنماط التفكير السابقة في معالجتها جيدا، فيعيش حالة عدم التوازن (déséquilibre). هكذا يحاول الشخص تجريب
أنماط جديدة قد استوعبها لكي يلائمها مع البنية المعرفية لديه محققا
توازنا جديدا، وهكذا.
إن حالات فقدان التوازن غالبا ما تحدث في الفترات الوسيطة. لهذا يعطي بياجي لهذه الفترات اهتماما تربويا كبيرا، لأنه يعتبرها أنسب الفرص لاكتساب خبرات جديدة غير مألوفة.
نظرية النمو المعرفي عند بياجي:
يتحدد التعلم، حسب جان بياجي، تبعا للنمو المعرفي عبر مراحل
سيكو - معرفية:
ينتقل الفرد في نموه العقلي والجسدي من المستوى الحسي (الطفولة) إلى المستوى المجرد (المراهقة)، في إطار التفاعل بين الذات والموضوع، بين النضج والخبرة، بين الذكاء والبيئة.
تعريف الذكاء في نظرية البنائية:
الذكاء عبارة عن عمليات عقلية ناضجة تساعد الفرد على استيعاب خبرات
البيئة، عبر عمليتي الاستيعاب والملاءمة، من أجل تحقيق التكيف مع الواقع، ومن ثم
تحصيل التوازن السيكو - معرفي.
ينظر بياجي إلى النمو المعرفي من منظورين هما:
1-البنيات المعرفية: (Structures cognitives)
تتشكل البنية المعرفية من خلال تفاعل
الفرد مع المحيط، فهي تتألف من معارف وقيم وخبرات، حيث تمثل مجمل الخصائص المميزة
للتفكير، أي الذكاء الذي ينمو لدى الفرد في كل مرحلة من مراحل نموه المعرفي، أثناء
معالجة الموضوعات والتوافق مع البيئة.
مثال: الأطفال الذين يمتلكون بنيات معرفية أكثر غنى وثراء يطورون معارف وخبرات أكثر غنى من الأطفال الذين يعيشون وفق ظروف معرفية بيئية فقيرة.
2-الوظائف العقلية: (fonctions mentales)
تشير الوظائف العقلية إلى العمليات العقلية التي يلجأ إليه الفرد في تفاعله مع البيئة. وهي تعمل على تشكيل المعرفة في البنيات المعرفية. ولتوضيح دلالة العمليات العقلية استعمل بياجي مفهوم "المخطط" (schéma) ليشير إلى البنية العقلية.
الدلالة البيداغوجية لنظرية التعلم البنائية:
- يبنى التعلم في النظرية البنائية من خلال تفاعل الذات (المتعلم) مع الموضوع
(المعرفة) وذلك عبر عمليتي الاستيعاب والملاءمة.
- تَعتبر نظريةُ التعلم البنائية المتعلمَ
مركز العملية التعليمية - التعلمية، والمدرس مجرد مرشد وموجه؛
- نظرية التعلم البنائية نظرية تشاركية تركز
على دور المتعلم في بناء التعلمات، وترفض كل أشكال التلقين لمعارف وقيم وخبرات
جاهزة؛
- أفضل أنواع التعلم هو الذي ينطلق من
الواقع.