كانت تجمع السفسطائيين بفلاسفة الطبيعة سمة مشتركة: فقد كان كلاهما
ينقد الأساطير. إلا أن السفسطائيين كانوا يرفضون فوق ذلك ما يبدو لهم تأملا نظريا
مجردا بغير هدف، فكانوا لا يهتمون بالبحث عن تفسير الألغاز الطبيعة والكون لأن
الإنسان لا يستطيع، في رأيهم، أن يصل إلى إجابة تفسر هذه الألغاز تفسيرا مرضيا
يمكن الاطمئنان إليه.
ولذا تخلى السفسطائيون عن محاولة حل الغاز الطبيعة واختاروا أن يهتموا
بالانسان ومكانته في المجتمع، وقالوا إن على البشر أن يتعلموا كيف يعيشون معا، حيث
يقول الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس «إن الانسان مقياس الأشياء جميعا».
وعندما سئل عن إيمانه بآلهة اليونان اكتفى بالرد قائلا «هذه مسألة
معقدة وعمر الانسان قصير». والذي لا يستطيع أن يبدي رأيا قطعة في وجود الإله او
عدم وجوده يسمى لا ادريا. كان السفسطائيون بوجه عام أناس كثيري الترحال مما أتاح
لهم الاطلاع على أنواع الحكم في البلدان المختلفة. وقد لاحظوا في تطوافهم هنا
وهناك وجود اختلافات هائلة بين شتى المدن في أخلاقها وعاداتها وقوانينها.
تمكن السفسطائيون بهذه الطريقة من لفت النظر إلى أن عبارة «الحياء
الطبيعي»، مثلا، لا تتفق دوما مع الواقع. فلو كان الشعور بالحياء «طبيعيا» لكان
هذا معناه أنه شعور فطري. ولكن أهو شعور فطري حقا يا صوفيا أم أنه بالأحرى شعور
اصطنعه المجتمع؟
وكما ترين كان السوفسطائيون يثيرون بحججهم مناقشات حية بين أهل أثينا
يؤكدون فيها عدم وجود معايير مطلقة تميز الحق عن الباطل، وأن الحق والباطل مفهومان
نسبيان. أما سقراط فقد حاول على العكس أن يبين أن هناك معايير مطلقة وصالحة
بالنسبة للناس كافة.
من هو سقراط؟
هو أكثر الشخصيات غموضا في تاريخ الفلسفة كلها، ومع ذلك فإنه يعد
واحدا من الذين أثروا أعظم التأثير في الفكر الإنساني، وما ساهم في قوة هذا
التأثير الظروف الدرامية التي اكتنفت موته.
نشأت سقراط:
نحن نعرف أن سقراط ولد في أثينا وأنه قضى جل وقته يناقش من يقابلهم في
ميادين المدينة أو من يصادفهم في أسواقها. وكان يرى أنه يتعلم بهذه الطريقة من
الناس، ولذا اعتاد أن يقول «إن أشجار الريف ليس لديها ما تعلمني إياه».
وكان من عادات سقراط أيضا أن يظل ساعات طويلة مستغرقا في أفكاره.
ويعود الفضل الأول في معرفتنا بحياة سقراط إلى كتابات أفلاطون الذي كان بدأ لسقراط ثم أصبح هو نفسه واحدة من أعظم فلاسفة التاريخ، فقد كتب أفلاطون عدة محاورات أو مناقشات فلسفية متخذا من شخصية سقراط لسان حاله. وعندما نطالع أقوالا أوردها أفلاطون على لسان سقراط تعوزنا في الواقع أي وسيلة تتيح لنا أن نعرف إن كان سقراط قد نطق بهذه الأقوال حقا.
السؤال أساس المعرفة في فلسفة سقراط:
كان سقراط يبدأ حواره دوما بطرح الأسئلة متصنعا بذلك أنه لا يعرف
شيئا، ثم يحتال أثناء المناقشة حتى يكتشف محدثه بنفسه شيئا فشيئا فساد منطقه،
وعندما يجد محاوره أنه قد أصبح محاصرة تماما يضطر في النهاية إلى تميز الحق من
الباطل.
يحكى أن أم سقراط كانت تعمل مولدة، وأن سقراط كان يقارن أسلوبه
الفلسفي بمهمة التوليد، وبالمثل، رأى سقراط أن واجبه ينحصر في المساعدة على «توليد»
أو استخراج الأفكار الصحيحة من الأذهان، لأن المعرفة الحقيقية يجب أن تأتي من داخل
كل إنسان فالفهم النابع من الباطن هو الذي يؤدي إلى المعرفة الحقيقية.
بهذا المعنى فإن سقراط كشف الحجاب عن النفس الإنسانية، فإن البشر
جميعا يملكون أيضا مقدرة طبيعية على التواصل بأنفسهم إلى الحقائق الفلسفية إن هم
استخدموا عقولهم، ففي وسع الانسان عندما ينعم التفكير أن يستولد الاجابات من داخل
نفسه.
إدراك الجهل بداية المعرفة:
يدعي سقراط أنه إنسان جاهل، كان يجيد اصطناع الجهل أو التظاهر على
الأقل بأنه أدنى ذكاء مما هو، ويسمى هذا الأسلوب في المحاورة «التهكم
السقراطي». وهكذا كان سقراط يتمكن من كشف نقاط الضعف في أفكار أهل أثينا. وما
أكثر ما وقع هذا المشهد في وسط السوق، أي على مرأى ومسمع من أشتات المارة.
وكان سقراط يقول «إن أثينا تشبه حصانا كسولا وما أنا سوى حشرة
لاسعة تحاول أن توقظه من غفلته وتؤجج فيه روح الحياة». وقد انتهى الأمر بسقراط إلى دفع حياته ثمنا
مقابل الدفاع عن أفكاره لذلك نعرض سقراط للمحامة
بتهمة إفساد الشباب، كان الحكم هو الإعدام، ودعاه الكثير للهروب من السجن لكنه رفض
ذلك.
الحياة أغلى شيء نضحي به في سبيل أفكارنا
المسيح وسقراط اعتبرا كلاهما شخصين غامضين من قبل معاصريهما. كما أن
كلا منهما لم يورك آثاره مكتوبة عن رسالته، مما يجعلنا نعتمد اعتمادا كاملا في
معرفتهما على الصورة التي نقلها تلاميذهما عنهما. غير أنا نعرف أن كليهما كان
خبيرا في فن المحاورة، فكل منهما كان يتحدث بيقين عميق يأسر الألباب فورا بسحر.
كما أن محاكمتي المسيح وسقراط تتماثلان أيضا من بعض الوجوه تماثلا
مثيرة. فكلاهما كان بوسعه أن يطلب الصفح فينجو بحياته، ولكنه كان يرى أنه مكلف
برسالة سيخولها إن لم يبرهن على الايمان بها حتى النهاية. وأدت مواجهتهما للموت
بسكينة جليلة وكرامة شامخة إلى التفاف الآلاف حول أفكارهما بعد وفاتهما.
من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض
يقول شيشرون، وهو فيلسوف رومانی إن سقراط «أنزل الفلسفة من السماء
إلى الأرض، وتركها تحيا في المدن وتدخل البيوت، وأجبرها على الاهتمام بالحياة
والأخلاق والخير والشر».
إن سقراط كان يعتبر نفسه فيلسوفا بالمعني الحقيقي للكلمة، فكلمة
فيلسوف تعني «محب الحكمة».. ومن المهم أن ندرك الفرق بين السفسطائي والفيلسوف. كان
السوفسطائيون يقبلون المال نظير آراء تتفاوت براعتها يعلمونها للناس. وهذا النوع
من السفسطائيين قد وجد على مر العصور.
والي أقصد على وجه الخصوص هذا النوع من المتعالمين المتحذلقين الذين هم إما شديدو الرضا عن معارفهم حتى وإن لم تتجاوز أقل القليل، وإما يفاخرون بأنهم يعرفون كما من الأشياء ليست لديهم عنها أي فكرة في الواقع، لكن الفيلسوف يدرك أنه لا يعرف في واقع الأمر إلا أقل القليل. وهذا ما يدفعه لأن يسعی إلى بلوغ المعرفة الحقة.
أنا أعرف شيئا واحدا هو أنني لا أعرف شيئا:
كان سقراط واحدة من هذه الكائنات الفذة. لقد كان «واعيا» بأنه لا يعرف شيئا يذكر عن الحياة والعالم، ولو نظرنا إليه من هذه الزاوية لرأينا أنه أحكم ممن يدعون معرفة كل شيء. لأن أحكم الناس هو من يعرف أنه لا يعرف. وكان سقراط يؤكد أنه لا يعرف جيدا سوى شيء واحد هو أنه لا يعرف شيئا.
الفيلسوف مثل الطفل.. يقول الحقيقة دائما
فسقراط كان جريئا مثل الطفل، أعلن الحقيقة بأعلى صوت ويقول إننا بنو
البشر لا نعرف إلا أقل القليل، وقد لاحظنا من قبل مدى التشابه بين الأطفال
والفلاسفة. لأننا نحن البشر نواجه عددا من الأسئلة الصعبة، وهي أسئلة ليس لدينا
إجابة مرضية عنها. وأمامنا من ثم أحد احتمالين: إما أن نخدع أنفسنا وسائر الناس
فنزعم أننا نعرف ما يجب معرفته، وإما أن تغمض أعيننا عن الأسئلة الجوهرية ونتخلى
نهائيا عن كل أمل في التقدم. وهذا ما يصنع
الفرق بين عامة الناس الذين يدعون معرفة كل شيء وإما لا مبالون بأي موضوع.
لكن من حين لآخر يظهر جوکر، أي ورقة لا تحمل لا رسم القلب ولا
المربع ولا الورقة ولا الوردة، وكان سقراط واحدة من هؤلاء الجوكرات في أثينا. فهو لم يكن يزعم أنه يعرف كل شيء كما أنه لم يكن
لا مباليا في الوقت ذاته، لقد كان يعرف فقط أنه لا يعرف شيئا..
وهذا صار فيلسوفا، أي شخصا لا يرضى باللامبالاة، شخصا يسعى بكل قواه
إلى بلوغ المعرفة الحقة، يحكى أن أحد الأثينيين سأل عرافة دلف عن أحكم أهل أثينا،
فأجابت أنه سقراط، وعندما سمع سقراط هذا الجواب عجب أشد العجب.
كان سقراط مهتما بإيجاد أساس متين تنهض عليه معرفتنا، وكان يرى أن هذا
الأساس يكمن في عقل الإنسان، وايمان سقراط بعقل الانسان يجعل منه عقلانيا.
لأن الرؤية
الصائبة للأشياء تقود إلى العمل الصائب هكذا كان يعتقد سقراط، وأن هذا «الوعي» كان
يدله على الحق. وكان يردد أن «من يعرف الخير لن يقدم على الباطل». وكان يعني
بذلك أن الرؤية الصائبة للأشياء تقود إلى العمل الصائب.
إهتم سقراط بالتوصل إلى تعريف واضح وشامل لما هو حق ولما هو باطل،
وكان يرى على عكس السفسطائيين، أن عقل الانسان هو الذي يميز الخير والشر، لا ما
يتواضع عليه مجتمع من المجتمعات. ولذا فان
من يعرف الحق لن يقدم على الباطل، فمن ذا الذي يريد أن يكون تعيسا؟.