مدخل أشكالي:
إذا كانت التقنية La Technique في دلالتها الفلسفية تشمل كل معاني الفن والصناعة والتحكم في الإنتاج والإتقان، فما علاقتها بوجود الإنسان ؟ هل تقف هذه العلاقة عند حدود تحقيق حاجاته الحيوية، أم أنها تتعدى ذلك إلى إثبات وجوده ككائن مفكر، قادر على تجاوز شرطه الطبيعي في اتجاه السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالحه، بدل الخضوع لقوانينها ؟ ثم ما علاقته بالعلم كمعرفة نظرية تنبني على التخطيط العقلي المنطقي الصارم، والمنهج التجريبي الدقيق ؟ هل يمكن اعتبارها امتدادا تطبيقيا لنظرياته وفرضياته أم أن التقنية تقابل العلم كما تقابل الممارسة النظرية ؟
جاء في "قاموس الفلسفة" لديده جوليا ما يلي: هناك مشكلتان فيما يخص علاقات "التقنية" "بالعلم":
1 - مشكلة تاريخية:
تتمثل بالسؤال التالي: هل أن منطلق التقنية هو العلم، أي التأمل النظري، أم هي على العكس سابقة له؟ إننا مجمعون على أن الإنسان اضطر إلى أن يعمل قبل أن يفكر: فمن المحتمل أن تكون الهندسة قد نشأت في مصر من الحاجة كل سنة إلى إعادة تحديد حقول كل مالك في أعقاب فيضان النيل وغمرها بالمياه. فالتقنية إذا هي السابقة تاريخيا.
2 - مشكلة فلسفية:
عائدة إلى طبيعة كل من التقنية والعلم.
هل التقنية والعلم أمران مستقلان من حيث طبيعتهما؟ إننا نلاحظ في العصور اليونانية
القديمة أن الرياضيات تطورت بمنأى عن أي اهتمام تقني.
يمكن إذاً أن نتصور فارقا بين طبيعة "التقنية" وطبيعة "العلم". ففي الواقع لا يتطور العلم إلا بفضل تقدم الأدوات التقنية، والحقيقة أنهما يتفاعلان. ودراسة مختلف أنواع التقنيات تدعى التكنولوجيا. الشيء الذي يدفعنا إلى جملة من الإشكالات والرهانات الفلسفية:
ما علاقة التقنية بالعلم؟ إلى ما يقود ارتباط التقنية بالعلم؟ وهل التقنية مجرد تطبيق للعلم بحيث يشكل هذا الأخير الجزء النظري في حين تشكل التقنية الجزء العملي أم أن التقنية مستقلة بشكل كامل عن العلم؟ أين تكمن مظاهر التعقيد في العلاقة الرابطة بين التقنية والعلم؟ أيهما يسبق ويؤسس للآخر: هل العلم يبنى على التقنية أم التقنية تبنى على العلم؟
تحليل نص:"عمل المهندس" لموسكوفيتشي
إشكالية النص:
ما علاقة
التقنية بالعلم؟ وبشكل خاص، ما علاقة الرياضيات والهندسة بالتقنية؟ هل يمكن أن
تساهم التقنية في ازدهار وتقدم علم الحساب والهندسة؟ وكيف ساهمت الهندسة والحساب في تقدم التقنية
وتجويد عملها والرفع من مردودها وازدياد دقتها وقدرتها على حل المشاكل التي نعاني
منها؟
مفاهيم النص:
(البنية المفاهيمية للنص تتمثل في: الحساب،
الهندسة، علم المهندس (التقنية الجديدة)، التكميم، مبادئ المعرفة الرياضية،
الخطاطات والرسومات ..) المفاهيم لا تحضر دائما على شكل مصطلحات مفردة بل قد تكون
عبارة عن صيغ، أي عبارة كما هو وارد في هذا النص...
مكممة: (التكميم la quantification)
مصطلح يستخدم في
العلوم الحقة منها الرياضيات ويعني تحويل المعطيات والوقائع التي ندرسها إلى صيغ
رياضية قابلة للحساب والقياس.
أطروحة النص:
يؤكد موسكوفيتشي
على ترابط العلم والتقنية وعدم انفصالها، حيث يرى أن التقنيات والآلات لابد وأن
تقوم على معارف علمية مؤسسة لها، وأنه دون استخدامها لعلمي الحساب والهندسة لن
تستطيع ايجاد حلول لمشاكل عصرنا. كما أن علم الهندسة وعلم الحساب ليست لهما القدرة
على حل مشاكل الإنسان ما لم يستخدما الآلات والتقنيات الميكانيكية.
عناصر النص: أفكار النص
1-ينطلق موسكوفيتشي من ربط إمكانية
المهندس على حل المشاكل التي يعاني منها الحرفيين والصناع، بقدرته على استخدام
الآلات والتقنيات الميكانيكية، وهو ما يتطلب منه معرفة ولو أولية بالهندسة والحساب
حتى تكون قياساته ورسوماته وخطاطاته دقيقة. من خلال وضعها في صيغ رياضية، عكس
الصنع والحرفي الذي لا يمتلك هذه الإمكانية ويظل مقتصرا على خبرته العملية فقط.
2- أين تكمن إذن ضرورة الرياضيات بالنسبة للمهندس؟ أو بتعبير لماذا يجب على المهندس أن يكون على
دراية بعلم الرياضيات؟
- ذلك أن من
يمارس التقنيات الحديثة، المهندس باعتباره الممارس للتقنية الجديدة (التقنية
القديمة هي الحرف والصنائع القديمة أو التقليدية) حسب موسكوفتشي يحتاج إلى معرفة
الأوزان والأحجام والأشكال للرفع من أدائها الآلات، إضافة لذلك أصبحت الهندسة صارت
وسيلة للدراسة والقياس.. وهو ما لا يتم إلا بالهندسة والحساب.
-يقدم موسكوفتشي
أمثلة على ذلك، فليوناردو دافنتشي لجأ إلى الهندسة لتصميم العجلة المسننة والتروس
المخروطية واللولبية.. كما لجأ إلى الرياضيات لقياس أجنحة الوطواط من أجل قياس كم
الهواء القادر على حمل وزن ما....
3- من هنا ندرك التداخل الحاصل بين الرياضيات وعمل المهندس، أو إن صح
التعبير بحضور الرياضيات في عمل هذا الأخير. فالرياضيات يشكل عنصرا أساسيا في عمل
المهندس، في حين تشكل الخطاطات والتصاميم والتجارب العنصر الآخر.
حجاج النص:
(اختزال حجاج النص في الأساليب الحجاجية: أسلوب كذا وأسلوب كذا وأسلوب كذا ... يسيء إلى الدرس الفلسفي في الكثير من الأحيان)
للدفاع عن
أطروحته القائلة بحضور الرياضيات في التقنية الجديدة (أي اعتماد المهندس على علمي
الهندسة والحساب) اعتمد موسكوفيتشي على بنية حجاجية منتزعة، حيث استهل نصه بنفي
إمكانية المهندس حل مشاكل الصناع والحرفيين ما لم يكن متمرسا باستخدام الآلات،
وهذا ما يتطلب معرفة رياضية. حتى يسهل عليه تحويل الوقائع التي يدرسها إلى صيغ مكممه.
أسلوب المثال:
من أجل شرح
وتوضيح الفكرة القائلة بأن هناك ضرورة للتكميم الرياضي، ولمعرفة المهندس بعلم
الرياضيات يقدم موسكوفيتشي مثال العالم والفنان الإيطالي ليوناردو دافينتشي الذي
لجأ إلى الهندسة لتصميم العجلة المسننة والتروس المخروطة واللولبية ... كما لجأ
إلى الرياضيات في أبحاثه للطاقة الهوائية لإجراء قياساته وحساباته. .... وهذا ما
أدى بالمهندسين إلى الاعتراف بوظيفة الرياضيات.
خلاصة:
ليخص موسكوفيتشي
في الأخير "هكذا" إلى القول بالتداخل بين الرياضيات والتقنية الجديدة
(مقابل الحرفة) أو بالأحرى حضور الرياضيات في عمل المهندس، حيث صار جزءا من عمل
المهندس يتشكل من الرياضيات والجزء الثاني يتعلق بالخطاطات والتصاميم والتجارب.
في وقتنا
المعاصر لم تعد هناك حدود واضحة بين العلوم والتقنيات، بل صارت التقنيات تخترق
مجال العلم وتساهم في تقدمه واكتشافاته، فالكثير من الاكتشافات العلمية الحالية ما
كان لها أن تكون لولا التقنيات الحديثة التي ساهمت فيها. وأصبح العلم يساهم في
تطوير التقنيات والرفع من جودتها ودقتها ومردوديتها.
مثال بمقراب هابل Hubble Space Telescope
"هو مرصدٌ فضائي يدُورُ حول الأرض، وقد أمدَّ الفلكيين بأوضح وأفضل رُؤية للكون على الإطلاق بعد طُول مُعاناتهم من المقاريب الأرضيَّة التي تقفُ في طريق وضوح رُؤيتها الكثير من العوائق سواء جوُّ الأرض المليء بالأتربة والغُبار أم المُؤثرات البصريَّة الخادعة لجوِّ الأرض والتي تُؤثِّر في دقَّة النتائج."(ويكيبيديا).
-مطلب المناقشة:
شكل تصور صاحب النص هذا العلاقة العلم بالتقنية تحولا جدريا، بحيث تجاوز ذلك التصور القديم الذي مثلته الفلسفة اليونانية القديمة في صورتها الأفلاطونية و الأرسطية، فقد كانت هذه الفلسفة تقيم تقابلا بين العلم معرفة نظرية شاملة، وبين التقنية كصنعة وممارسة عملية، انطلاقا من تصور انطولوجي ثنائي يقسم الواقع إلى بنيات جوهرية معقولة وضرورية ( موضوع العلم ) ، وأشياء عارضة حسية وطارئة ( موضوع التقنية، بل العصر الراهن أتبث بالملموس أهمية العلم في تطور التقنية. وأن العلم بدوره لم يكن ليحقق ما حققه من معرفة دقيقة بالكون والطبيعة الإنسان، لولا التقنية التي أمدته بالأدوات اللازمة للبحث العلمي الدقيق.
المناقشة: "التقنية والعلم كسيرورة" إدغار موران
يوسع إدغار
موران من إشكالية العلاقة بين العلم والتقنية لتصبح سيرورة دائرية تفاعلية بين
التقنية والعلم والمجتمع والدولة، حيث يرى أن سيرورة علم-تقنية هي سيرورة دائرية
ترتبط بمكونات اجتماعية وسياسية وتاريخية.
حيث العلم التقنية وهذه الأخيرة تنتج الصناعة،
والصناعة تقود إلى إنتاج المجتمع الصناعي. والعلاقة بين عناصر هذه السيرورة هي
علاقة تفاعلية، بحيث كل مكوناتها تتفاعل فيما بينها، فعالية العلم تتفاعل مع
التقنية والتقنية مع مصالح المجتمع والسياسة.
وأصبح اليوم هذا
التحكم من خارج هذه السيرورة وبتدخل أطراف ومكونات أخرى وهي مصالح الدولة السياسية
والاقتصادية عبر مراقبته وتمويله وتوجيه، وهذا ما يظهر حاليا في التقنيات الطبية
والتكنولوجيا النووية وكل مظاهر العلم التقنية.
إن هذا التفاعل
والترابط بين مكونات هذه السيرورة هو ما دفع بإدغار موران إلى الدعوة لـ «تفادي
عزل مصطلح التقنية عن باقي العناصر الأخرى وتفادي تشييئه أو عبادته أو الانبهار
به".
إن الحديث عن سيرورة العلم- التقنية والمجتمع
والدولة معناه أن هذه السيرورة عبارة عن حلقة تترابط فيما بينها وتشكل حلقة
تعاقبية تفاعلية متبادلة بين أطرفها.
تركيب المحور:
يتبين من خلال تحليل ومناقشة إشكالية العلاقة بين الفلسفة والعلم، أن كلا من موسكوفيتشي وإدغار موران يؤكدان على الترابط والتداخل الحاصل بين العلم والتقنية، وهو التداخل الذي تقره الوقائع في عصرنا، هذا مع الثورة التكنولوجيا وقيام المجتمعات الحديثة القوية على ما هو تكنولوجي. ففي اللحظة الحديثة بدأ يظهر في العالم الأورہی، هذا الشيء الجديد هو التفكير في استخدام العلم للأغراض التقنية.
ولقد كان من نتائج هذا التحالف بين العلم والتقنية، النهوض بحياة الإنسان كما وكيفا، على نحو لا يمكن تصوره أو حتى تخيله في أي عصر، حيث مكنته من تغيير أساليب الإنتاج تغييرا جذريا، وأمدته بمواد لم تكن موجودة، وسلحته بأدوات للتنفيذ والإنجاز مستحدثة تماما، وبفضل النتائج البارزة للتقدم التقني الحديث والمعاصر ع الخصوص، تزايد تحكم الإنسان في الطبيعة وظواهرها، واعتماد البحث العلمي وتعميق تخصصاته.
غير أن هذا الوضع لم يخل من مشاكل كانت لها الأثر السلبي على محيطه البيئي والاجتماعي والأخلاقي، مما استدعى إعادة النظر في التقنية ودورها في حياة الإنسان، أي النظر إليها الا في بعدها التقني المد فقط، بل في بعدها الإنساني أيضا، وكل تهميش لهذا البعد، معناه تحويل هذه التقنية إلى أداة مخربة للإنسان و البيئية، وهنا تكمن قيمة ما دعا إليه الفيلسوف الفرنسي Michel Serres إلى إبرام عقد طبيعي.