إرادة المعنى – أسس وتطبيقات العلاج بالمعنى، فيكتور فرانكل.
النفس البشرية بحر مركب ومعقد يصعب حصرها ورصدها بشكل
محدد، نتيجة للتركيب والتداخل الحاصل بين جملة من الأبعاد والمحددات العاطفية
والمعرفية والتربوية والبيولوجية والاجتماعية...، لذا فإن أي نظرة اختزالية تقدم
فهما معوق حول الوجود الإنساني، على الفهم الموضوعي لمحددات هذه النفس وأبعادها.
لهذا فإن المقاربات التي ترصد النفس الإنسانية تختلف
وتتنوع، وفي هذا السياق أستحضر كتاب "إرادة المعنى – أسس وتطبيقات العلاج
بالمعنى"
للكاتب والمحلل النفسي فيكتور فرانكل، الذي قدم رؤية نقدية للمقاربات الاختزالية
للنفس الإنسانية، وأكد على أهمية البعد المعرفي والرؤية الوجودية التي تسير حياتنا
في التعامل مع الصعوبات والتحديات في الحياة. لأن محاولة تحويل الإنسان إلى شيء يمكن
التحكم فيه، عملية مستحيلة وغير ممكنة ذلك أن الأبعاد الوجودية التي توجه الأنا
يصعب تعريفها وحدها.
وذلك لأن
وجود الإنسان
يسبق ماهيته، إنه ليس شيئا في البدء، بل إنه سيكون ما يصنعه بنفسه، فالإنسان يتوفر
على خاصية التجاوز لكونه وجودا بذاته غير قابل للتعريف والتحديد فهو ما ليس هو
وليس هو ما هو، إنه يتوفر على خاصية العدم والوعي هو دائما انفصال ونفي.
بالتالي، يكون الإنسان منا أكثر قدرة على التصرف ومواجهة ما يحل به،
فهو ليس مجرد عبد للتركيبة النفسية والجينية التي تعود إلى مرحلة الطفولة، حسب
فرضيات التحليل النفسي لدى سيجموند فرويد، أو للهرمونات والنواقل الكيميائية التي
تجري في دمه وخلاياه العصبية بحسب مفردات علم الأعصاب، بل هو قادر على تجاوز كل هذه الحتميات والامساك
بزمام المبادرة، كما يقول: "لا
يمكن للإنسان تغيير القدر، وإلا لما كان قدرا، ولكن يمكن أن يغير من ذاته، وإلا
لما كان إنسانا".
العلاج بالمعنى:
"إن ما يصنعه المرء هو نتيجة مباشرة لما يدور في فكره، فكما ينهض المرء على قدميه وينشط وينتج بدافع أفكاره، كذلك يمرض ويشقى بدافع من أفكاره" جيمس الين
بالنسبة لفرانكل كل إنسان يمر بجملة من الصعوبات والتحديات في الحياة، لكن الفرق بين الناس يظهر في النتائج المحصل عليها، فالإنسان مطالب دائما بمحاولة تحسين حياته نحو الأفضل والأحسن على جميع المستويات. ومن أجل فهم هذه النقطة بشكل أعمق دعنا نتأمل حكاية فرانكل مع العلاج بالمعنى، وقد بدأت حينما دخل معتقلات النازية، وكان فرانكل متخصصا في الطب النفسي والعصبي يؤمن بعلم النفس التحليلي، إلا أن ثلاث سنوات في المعسكر النازي غيرت من أفكاره، عندما بدأ يرى الموت كل يوم. تشكلت لديه جملة من الأسئلة الوجودية. ما الدافع يجعل الإنسان متمسكا بالبقاء؟ ما الذي يدفع إنسان يعرف أنه ميت نتيجة مرض السرطان يقاوم إلى أخر لحظة من الحياة؟
فرانكل ضد فرويد:
في هذه النقطة يختلف فرانكل
مع فرويد، فدافع الإنسان ليس اللذة، أو النجاح والمكانة، كما قال أدلر، أو تحقيق
الذات، كما تصور مازلو، إنما الدافع الجوهري للحياة يرتبط بالبحث عن معنى ومحدد
للحياة، والإنسان يمر بهذا البعد المعنوي
فقط عبر التسامي عن الظروف المحيطة التي لا يتمكن من تغييرها، لكنه يتمكن من تغيير
وجهة نظره تجاهها.
من هذا
المنطلق نفهم أن الحياة ليست قابلة للقياس والتحديد، لأن كل إنسان يعيش تجربته
الشخصية بشكل مختلف عن الأخرين، بالتالي فإن معنى الحياة هو تجربة، حيث كما يقو ل الفيلسوف كارل ياسبرز "الإنسان
هو ما صار عليه من خلال تلك القضية التي جعلها قضيته الخاصة"، يرى فرانكل
أن قدرة الإنسان على إعادة تشكيل ذاته، هو الحد الفاصل بين الوجود الإنساني الذي
يصنع ماهيته، وبين الإنسان الهش الذي لا يستطيع الخروج من الحتميات التي فرضت
عليه.
التجربة الوجودية الخاصة بالإنسان ترصد جملة
من التغيرات والأبعاد، لأن مجرد التفكير لا يكشف لنا الغرض الجوهري من الحياة، لكن إيجاد
معنى للحياة ليس مسألة تفكير، بل هو مسألة تجربة وخبرة على جميع المستويات.
أهمية المعاناة في الحياة الإنسانية:
لذلك فإن وجود المعاناة بدون قيمة أو دلالة، حالة تحطم الإنسان، حيث يصبح عاجزا أمام تحديات الواقع، لكن تحمل المعاناة يأتي نتيجة اكتشاف معنى لهذه الحياة رغم تعاستها ومشاكلها، وهذا ما يفسر صبر الكثير من الناس على وضعيات لا يطيقها أحد، ومن زاوية أخرى يوجد الكثير من المبدعين الذين حولوا المعاناة إلى مصدر للإبداع والقوة، في جميع مجالات الإبداع الإنساني، تمكنوا من مواجهة التحديات والصعوبات، وهذه القوة هي سر تعاطفنا مع الأفراد الذين يحققون نجاحات رغم الظروف الصعبة التي يمرون بها، لأننا نعرف إنسانيتنا حين نتجاوز الحدود والقيود التي نسقط فيها، حين نتجاوز المستحيل والصعب، وهذا ما يسميه اريك فروم الانفصال عن الذات المزيفة، فالإنسان ليس حيوان ولا آلة بل هو إنسان وفقط، الكائن الوحيد الذي يحاول فهم نفسه بشكل مستمر ومتجدد. بهذا المعنى فإن معاناتنا أو أخطاءنا أو آثامنا، أو حتى الوقوف في مواجهة الموت نفسه، تعد امتيازا لنا نحن البشر، لأنها تعطينا الفرصة لتحمل مسؤولية ذواتنا واتخاذ موقف مناسب.
العلاج بالمعنى!
إذن فإن الحديث عن قوة الإنسان يكمن في قدرته على تجاوز الحدود
والصعاب التي يسقط فيها، لأن الإرادة الانسانية أقوى من كل القيود والحواجز التي
قد تقف أمام الاختبار، ولعل التاريخ الإنساني زاخر بهذه النماذج التي تلغي الشك
والريب في نفوس أولاك الذي يدعون أن الإنسان محكوم في دائرة محدودة ليس بمستطاعه
تجاوزها، فالإنسان أقوى من الأقدار.
لأنه يستطيع مواجهتها وتجاوزها، وإذا نظرنا للأشخاص الذين يخلدهم
التاريخ سنجد عامل مشترك بينهم يتجلى في قدرتهم على تجاوز التحديات والصعاب و
مواجهة القدر بنوع من الشجاعة والفعالية، كما قال توماس كارولاين "لن تبدأ
النجمة الخالدة بالتألق إلا مع اشتداد الظلمة" و قوله أيضا "فلتذهب إلى
أقصى مدى يمكنك رؤيته، وعندما تصل إلى هناك فسوف يكون بإمكانك الرؤية لمدى
أبعد".
هذا الأمر يتفق مع وجهة نظر الفلسفة الرواقية التي تقول بحد تعبير الفيلسوف إبيكتيتوس: "إن كل ما يحدث للناس من انفعال ليس من جراء الأشياء وإنما من جرّاء فكرهم عن الأشياء"، الأشياء -أيا كانت- محايدة، ونحن نسقط معنى حياتنا عليها.
الاختزال يقتل الإنسان:
المشكلة كانت دائما في محاولة اختزال الإنسان في بعد واحد فقط، يمكن
فهم تلك النقطة بوضوح حينما نتأمل الادعاءات الاختزالية المعاصرة من نوعية
"ليس سوى". حيث يقول الادعاء الشهير: "الإنسان
ليس سوى مجموعة من الجينات أو النواقل العصبية التي تتحكم في سلوكياته". مثل
هذه النظرة للحياة، لا يمكنها أن تعطينا معرفة وفهما موضوعيا لما يعيشه الإنسان من
تجارب وخبرات نفسية ووجدانية.
لو تأملت قليلا، لوجدت أن هذا الاختزال هو السبب في التصورات الشعبية
الشائعة عن المصابين بالاضطراب النفسي كأنهم وحوش أو غير مؤهّلين لشيء، لأنهم من
تلك الوجهة ليسوا سوى اختلال في وظيفة الدماغ التي لا نعرف لها علاجا بعد.
أهم عنصر
داخل الحياة هو المعنى، والانتماء لقضية أو موضوع يحتاج إلى التحليل والدراسة
والفهم بكل أشكاله وأنواعه، لو قرّرت التأمل قليلا لوجدت أن فرانكل بتلك الفكرة كان يضع جذورا لما
يحدث اليوم في العلاج النفسي، حيث يتدخل العلاج مع التقنيات النفسية في محاولة
لعلاج الاضطرابات النفسية، خاصة الاكتئاب والقلق.
التجربة الوجودية والعلاج النفسي:
يصب فرانكل اهتمامه على ما يسميه بالفراغ أو الخواء الوجودي، وهو
ببساطة تلك الحالة من فقدان المعنى التي تصيب الجميع في عصور الشك أو الهزيمة على
سبيل المثال، هنا يلح الإنسان على طلب مصادر اللذة بكل أشكالها وأنواعها حتى يتمكن
خلق نوع من التوزان على المستوى النفسي والوجداني والعاطفي.
حينما يقع مجتمع ما في أسر الفراغ الوجودي بفقد كل المنطلقات التي تدفعه للحياة، لهذا فإن لا يمكن التعامل مع الفراغ الوجودي كمرض نفسي، بل هو أقرب ما يكون إلى "عصاب معنوي"، لكنه يلعب دورا مؤثر في الحالة النفسية، فتصبح نِسَب الإصابة بالاكتئاب والقلق أكبر في تلك الحالة من فقدان المعنى الضارب في المجتمعات، لذلك يجب على المتخصصين في نطاق علم النفس أن يهتموا بحل تلك المشكلة التي تعد أساسية بقدر المرض نفسه.
يقول فرانكل: "إن الاهتمام الطبيعي والأصيل للإنسان والمنصب على القيم يتعرض للخطر نتيجة سيطرة النزعة الذاتية والنزعة النسبية، فمن شأن أيٍّ من هاتين النزعتين أن تودي بمثالية الإنسان وحماسه". يقصد فرانكل ما مر بالعالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن مجتمعاتنا تمر حاليا بحقبة شبيهة من فقدان المعنى، ولهذا السبب فإننا نتخبط في الشوارع مثل الزومبي، لا نعرف أين تكمن المشكلة تحديدا، ولكننا -على أية حال- ننهل بكل شغف من المثيرات الحسية التي تعرضها علينا الحياة الرقمية.
لهذا السبب يوجد فرق كبير
بين من يعيش تجربة الحكمة في حياته ويخبر بعض التجارب التي تعمق انسانيته، وبين من
يدعون الحكمة والذكاء بيد أنهم منها براء، مثل براءة الذئب من دم يوسف، وهذا ما
تعاني منه الإنسانية اليوم حيث لم يعد الاستماع لصوت العقل المحدد الأساسي لمعظم
تصرفاتنا، بل أضحى الجميع يسعى إلى المعرفة لكن نادرا ما نستفيد من هذه المعارف نتيجة
للأنماط الثقافية التي تعودنا عليها، الكل يعرف أن التدخين عادة سلبية مدمرة لصحة،
غير أننا نجد أن أكثر من مليار مدخن في العالم، وهذا الأمر جاء نتيجة لسوء استخدام
المعرفة والعلم، إذن نحن في حاجة إلى بناء معرفة تقودنا نحو النجاح المهني
والمعرفي، بيد أننا نعيش في الثقافة
العربية نوع من الاستخفاف وتبذير الوقت الذي يحرمنا من فهم الأشياء بعمق وإمعان
النظر في الظواهر بشكل يجعلنا قادرين على تخصيب التجربة المعيشة وتقديم الخدمة
والمساعدة للذات الناس.