هل أنا مجموع ذكرياتي؟
إن أدمغتنا وأجسامنا تتغيّر تغيراً كبيراً على امتداد حياتنا، تماماً
مثل عقرب الساعة، يصعب علينا أن نحس بتلك التغيرات فكل أربعة شهور تستبدل خلايا
الدم الحمراء في جسمك، على سبيل المثال، كما تستبدل خلايا جسمك كل بضعة أسابيع.
وبمعنى
آخر أنت دائماً شخص، جديد، ولحسن الحظ هناك ثابت واحد يربط هذه الاختلافات كلها مع
بعضها بعضاً، هو الذاكرة، ربما تعمل الذاكرة بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه حبّات
السبحة: «شخصيتك أنت»، فهي تستقر في جوهر هويتك، وتوفر لك إحساساً فريداً ومستمراً
عن ذاتك.
·
هل
الذاكرة مجرد أوهام أم دائما تكون صائبة؟
تخيل نفسك، وأنت تتمشى في أحد المتنزهات وتُقابل نفسك في زمن آخر من
حياتك، ولنفترض وأنت في عمر ست سنوات أو وأنت مراهق أو في أواخر العشرينات، وإن
شئت في منتصف الخمسينات، أو حتى في آخر السبعينات أو خلال رحلة العمر كلها. ففي
مثل هذا المشهد، يمكنك أن تجلس مع نفسك، وتتبادل معها القصص نفسها التي مررت نفسها
بها في حياتك تقلبها قصة تلو الأخرى في ذلك الخيط الذي يجمع شخصيتك.
فأنت بمجملك تمتلك الاسم والتاريخ، ولكن الحقيقة أنت إنسان مختلف
نوعاً ما، وتمتلك قيماً وأهدافاً مختلفة، وذكرياتك قد لا يجمعها شيءٌ مشترك أكثر
مما تتوقع، لأن ذاكرتك في سن الخامسة عشرة مثلاً تختلف عن شخصيتك في سن الخامسة
عشرة، وفضلاً عن ذلك فإن لديك ذكريات مختلفة تعود إلى الأحداث نفسها.
هل الذاكرة مجرد وهم؟
قد تكون بعض الأحيان الذاكرة مجرد وهم لأن ذاتي في الماضي ليست هي ذاتي في الحاضر كب مرحلة تتميز بصفات تختلف عن الأخرى على مستوى الذاكرة.
في الكثير من الأحيان تتربس بنا الذاكرة الكاذب التي تعقينا في الوصول إلى الحقائق وهذا ما يجعل بعض الأحيان ذكرياتنا مزيفة ووهمية. و ماضينا مُزوّر وهو في الحقيقة لا يتعدّى أن يكون نسيجاً لأشياء نتخيلها، وأحياناً تكون معتمدة على بعض الخُرافات. فعندما نُراجع ذكرياتنا، علينا أن تراجع وعينا؛ لأن التفاصيل التي نقدمها ليست كلها صحيحة، فقد يكون بعضها مصدره قصصاً، رواها لنا أشخاص عن أنفسهم، وبعضها مليء بما نتمناه أن يحدث، ولذلك إذا كانت إجابتك عن السؤال من أنت، تعتمد على ذاكرته، فقد تخونك الذاكرة في بعض اللحظات.
لماذا ننسى بعض الذكريات وتظل أخرى راسخة في أذهاننا؟
كل إنسان يحاول أن يفهم ما يحصل له حينما ينسى الواقع الذي يعيش فيه.
البداية دعنا نتذكر أن لدينا عدداً غير محدود من الخلايا العصبية، وأن هذه الخلايا
كلها تستدعى للعديد من المهام، وأن كل خلية تُشارك في مجموعة مختلفة في وقت مختلف.
وهذا يعني أن الخلايا العصبية تعمل بطريقة المصفوفة المتحركة التي تشكل مجموعة من العلاقات المتغيّرة، وأن هناك طلباً متزايداً عليها للانضمام إلى خلايا أخرى، فذاكرتك عن ذلك العشاء، أصبحت مغمورة، لأن الخلايا العصبية التي شاركت في ذلك الحدث قد اختيرت في شبكات أخرى من الذاكرة، وهنا علينا أن نعلم أن عدوّ الذاكرة ليس الزمن، بل الأحداث الأخرى، لأن كل حدث يحتاج إلى بناء علاقة جديدة بين عدد غير متناهي من الخلايا العصبية، والمفاجأة أن الذاكرة المتلاشية لا تعني أبداً أنها تلاشت بالنسبة لك، لأنك تحس أو على الأقل تفترض أنك ستجد كامل الصورة هناك.
الذاكرة
قد تتعرض لتشويه بسبب المحفزات القبلية:
قامت الدكتورة لوفتس بإجراء تجربة دعت فيها بعض المتطوعين لمشاهدة
أفلام عن تحطم السيارات، ثم طرحت عليهم مجموعة من الأسئلة لاختبار ذاكرتهم عما
شاهدوه، واكتشفت أن طبيعة السؤال تُؤثر على نوعية الإجابة وقد أوضحت أنها عندما
سألت المتطوعين عن السرعة التي كانت تسير فيها السيارات حينما صدمت بعضها بعضاً،
مقارنة بالسرعة التي تسير فيها السيارات حينما تحطمت من خلال تصادمها، فقد حصلت
على إجابات مختلفة عن سرعة السيارتين من شهود الحادث فقد اعتقد هؤلاء الشهود أن
السيارات كانت تسير بسرعة أسرع في إجابتهم على السؤال الثاني الذي احتوى على كلمة
تحطم، وهذا يدل على تلوّث ذاكرة المستجيبين بمفردات السؤال.
رغم
أننا نستطيع أن نعيش بدون ذاكرة ولن تتأثر حياتنا الفيزيولوجية، لكن حياتنا
النفسية والاجتماعية وهويتنا لن يكون لها أي معنى بدون ذاكرة، لن نستطيع وضع
المعاني والدلالات على الأشياء إذا لم تكن لنا ذاكرة:
التمرن المستمر هو سر نجاح الذاكرة:
عاد فريق الباحثين إلى البيانات التي جمعوها، وبدأ يراجع فيها، فوجد
أن العوامل النفسية هي التي تُحدّد فقدان الذاكرة، خاصة التمارين
الذهنية، أي أن النشاط الذي يحفظ عمل الدماغ، مثل حل الكلمات المتقاطعة والقراءة،
وقيادة السيارة، وتعلم مهارات جديدة، وأن تكون لدى الإنسان مسؤوليات معينة هو الذي
يحفظ الذاكرة من التآكل، وهذا الأمر أيضاً ينطبق على جميع النشاطات الحياتية بما
فيها النشاطات الاجتماعية.
إذن
وجود أهداف وأنشط في حياتنا هي التي تخلق الفرق بين الناس، وعلى الجانب الآخر، فإن
العوامل النفسية السلبية مثل الوحدة والقلق والاكتئاب وقابلية التعرض للضغط
النفسي، كلها ترتبط بتدهور الذاكرة السريع، كما أنه يُمكن وقاية الدماغ من هذه
الأمراض ببعض السلوكيات الإيجابية مثل القراءة والتعاون ومساعدة الناس وغيرها من
الأنشطة الفاعلة في هذه العلمية.
إلى
درجة أن بعض الناس قد يقع لهم تلف عصبي في أنسجتهم الدماغية لكنهم استطاعوا أن
يكوّنوا ما يُمكن تسميته بالاحتياط المعرفي، فكلما تأكلت بعض الأنسجة
الدماغية كلما أشعلت ببعض التمارين مما يُعزّز قدرتها في التعويض أو يزيد من
أدائها، والقاعدة أنه كلما حافظنا على سلامة أدمغتنا من خلال تحدّيها بمهام صعبة
وجديدة بما في ذلك التفاعل الاجتماعي استطاعت الشبكات العصبية أن تبني ممرات جديدة
للتحرك من النقطة أ إلى النقطة ب.
بهذا المعنى نستنتج أن الذاكرة هي نتيجة تراكمية، لجملة من الممارسات واليات المعرفية والنفسية والعصبية والعملية التي يمكن أن تساعدنا في الحفاظ على هويتنا وتواجدنا داخل هذا العالم، لأنه مهما كنا أقوى وأذكى، فإنه بدون ذاكرة لن نعرف من نحن وماذا نريد وكيف نعيش، ولن ندرك معنى الحياة التي نوجد بها