"إنه إذا أمكن حقا في يوم من الأيام اكتشاف قاعدة لجميع رغباتنا وأهوائنا - أي اكتشاف تفسير لما تقوم عليه هذه الرغبات والقوانين التي تنشأ بمقتضاها، وكيف تتطور وما الذي تهدف إليه في كل حالة أي اكتشاف قاعدة رياضية حقيقية - لأصبح حينئذ من المحتمل جدا أن يتوقف الإنسان فورا عن الشعور بالرغبة، بل إن حدوث ذلك شيء مؤكد.
فمن هذا الذي
يريد أن يكون اختياره بناء على قاعدة؟ وفضلا عن هذا فإنه سيتحول فورا من كائن بشري
إلى صمام في أرغن أو شيء من هذا القبيل. إذ ما الإنسان بلا رغبات وبلا إرادة وبلا اختيار؟
إنه لا يعدو أن يكون صماما في أرغن. ماذا ترون؟ فلنحسب الاحتمالات.. هل يمكن أن
يحدث مثل هذا الشيء أم لا؟
ستقولون : " إن اختيارنا يخطئ عادة لأننا لا ندرك مصلحتنا على حقيقتها . فقد نختار أحيانا شيئا بالغ السخف لأننا نرى بحماقتنا أنه أسهل الوسائل لتحقيق مصلحة مفترضة. ولكن عندما يفسر كل ذلك ويوضع على الورق ( وهو أمر ممكن تماما، فمن المهانة والعبث أن نفترض أن الإنسان لن يفهم بعض قوانين الطبيعة) فلا شك أن ما يسمى بالرغبات لن يكون له وجود، لأنه إذا ما نشب نزاع بين إحدى الرغبات وبين العقل، فحينئذ سنحكم العقل لا الرغبة إذ أنه من المحال ونحن نحتفظ بعقولنا أن نكون غير عقلاء أمام رغباتنا، فنعمل عن وعي ضد العقل ونرغب في إيذاء أنفسنا.
ولما كان من الممكن حساب كل اختيار وتعقل - إذ إنه ستكتشف في يوم ما قوانين ما يسمى بإرادتنا الحرة - فسيكون لدينا – بلا مزاح في يوم ما جدول خاص بها بحيث يمكن حقا أن يكون اختيارنا متفقا مع هذا الجدول. فإذا ما أثبت لي الاختيار والتعقل في يوم ما مثلا أنني قد بدرت مني حركة تنم عن احتقاري لشخص ما لأنه لم يسعني إلا أن أفعل ذلك، بل ووجدتني مضطرا لأداء تلك الحركة بهذه الطريقة بالذات، فما هي الحرية التي تركت لي إذن وخاصة إذا كنت رجلا متعلما وحاصلا على درجة مكان ما ؟ إذن فسأكون قادرا على حساب حياتي كلها مقدما مدة ثلاثين عاما.
وخلاصة القول إنه إذا
أمكننا عمل ذلك فلن يبقى لنا شيء نفعله وعلى أية حال فعلينا أن نفهم هذا. كما
ينبغي أن نكرر لأنفسنا بلا ملل أن الطبيعة في وقت معين وفي ظروف معينة لا تستأذننا
، إننا يجب أن نأخذها كما هي لا أن نحاول تشكيلها لتناسب خيالنا . وإذا كنا حقيقة
نطمح في الوصول إلى قواعد وجداول بل حتى... في الوصول إلى أنبوبة اختبار، فليس في
وسعنا إلا أن نقبل أنبوبة الاختبار أيضا وإلا فستقبل دون موافقتنا."
دوستويفسكي، مذكرات من العالم السفلي ترجمة زغلول فهمي، دار الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.