فلسفة الصمت الاجتماعي الجزء الأول: الصمت ليس حكمة

 

فلسفة الصمت الاجتماعي




تحديد مفهوم الصمت

في البداية، يجب أن نوضح أننا لن نتحدث عن الصمت الفردي الذي هو لغة الفرد. فالصمت قد يكون لغة من لغات الفرد - لغة كلام هو حديث الفرد إلى ذاته، لكننا سوف نتحدث عن الصمت باعتباره فعل اجتماعي تواصلي". كما أن ثقافة الصمت تعد  من أخطر الظواهر الاجتماعية والثقافية التي تواجه المجتمعات المعاصرة، وتحديداً المجتمعات العربية والإسلامية. فالصمت ليس مجرد عدم كلام، بل هو لغة بحد ذاتها تحمل دلالات عميقة وتترك آثاراً مدمرة على النسيج الاجتماعي والثقافي للأمة.

 فما معنى الصمت الاجتماعي؟

بإزاء الصمت الفردي - لغة الفرد - فإن الصمت الاجتماعي أيضاً لغة: إنه أيضاً لغة، ليس نفياً للغة. لكنها لغة لها قوامها الخاص، لها دستورها الخاص، لها آلياتها في التعبير والبيان. ولذلك تستدعي هذه اللغة: التأويل، والترجمة و الانفتاح على اللغة المشفرة الكثيرة التي تعطيها لغة الصمت.

السؤال المحوري: هل الصمت الاجتماعي ممكن؟

الإجابة السائدة: الإجابات الموجودة على الساحة الثقافية والفكرية كلها تؤكد أن الجواب بالإيجاب - نعم ممكن، بدليل أن قطاعات كبيرة جداً من هذه الأمة صامتة ساكتة أو مُصمَتة مُسكَتة خرساء.  لكن الفرضية التي سوف نقدمها أن الصمت الاجتماعي غير ممكن، لأننا نحن نتكلم ونرسل رسائل سواء تكلمنا أو سكتنا،  إذن لصمت غير موجود.

لماذا الصمت الاجتماعي غير ممكن؟

الوجود المجتمعي يتصف بجملة من الخصائص والرموز والدلالات، فهو تفاعلي، وتكافلي وتآزري وتعاضدي... ومن أجل توضيح هذا الأمر سوف نقدم مثالا على ذلك الميزان له كفتان ولدينا أثقال. الأثقال لا بد أن توضع في الكفتين - إما فيهما كلتيهما أو في إحدى الكفتين.

  • على المستوى الفردي: يمكن أن تُحيد بعض هذه الأثقال وتضعها في الفراغ وحدها
  • على المستوى المجموعي: غير صحيح

لا يوجد ثقل في الوجود المجموعي خارج الاستخدام وخارج التوظيف.

مثال عملي: حين ترى وضعاً تمييزياً، وضعاً اضطهادياً، وضعاً يستدعي الشجب والتنديد والاستنكار وتسكت، تقول "أنا صمت، أنا سكت"، فإنك في الحقيقة ترسل رسالة تقول فيها: "هذا الوضع مرّ بسلام، يُجزيني، الأمر لا يعنيني، لا شأن لي بك". إذاً أنت أديت رسالة، أنت تكلمت هنا، كان لك موقف شئت أم أبيت. سكوتك وصمتك هو رسالة وموقف. لأن الإنسان في أكثر فعالياته ومناشطه كائن اجتماعي. و كلنا نردد عبارة أرسطو المشهورة: "الإنسان حيوان مدني بالطبع" - أي اجتماعي.

نقد النظريات الطوباوية

وهذا الأمر الذي لم ينتبه له النموذج التحليلي الكلاسيكي، الفنتازيا التي تحدث عنها: ابن سينا وابن طفيل وابن باجة في "تدبير المتوحد"، أو دانييل ديفو في "روبنسون كروزو" أو أسطورة روموس وريموس الرومانية، إضافة إلى قصة جان جاك روسو في حديثه عن "المتوحش النبيل" كل هذه الأساطير والفنتازيا تصورات غير صحيحة، تهويمات، كلام غير صحيح علمياً. لأن التاريخ والواقع يبرهنان عكس ذلك - أن الإنسان لا يمكن أن يبرهن إنسانيته خارج رحم المجتمع.

وخير مثال علمي على ذلك حالة "صبي أفيرون" في أواخر القرن الثامن عشر (1797 تقريباً) اكتُشف في فرنسا في غابة صبي دُعي "صبي أفيرون". كان هذا فرصة ثمينة لاختبار النظريات حول إمكانية وجود الإنسان خارج المجتمع، والنتيجة كانت هي أن هذا الطفل حركات مقززة، أصواتاً غريبة، يقفز من مكان لآخر، لم يُبدِ أي مظهر يدل على انتمائه لعالم البشر، وأثبت الدكتور كاسبار إيتار الذي أُوكلت إليه مسألة هذا الصبي، أن الصبي تخلف ليس بالخلقة وإنما للعزلة الاجتماعية المطلقة. لم يعش في عالم البشر، عاش من أول يوم في عالم الغاب، فخرج حيواناً.

حاول الدكتور تعليمه: تعلم كيف ينتصب قليلاً، تعلم كيف يلبس ويستر عورته، تعلم أن يترك العض والنهش، تعلم بعد سنوات أن يفهم اللغة الفرنسية، لكنه فشل في أن ينطقها بالكامل

من هنا نستنتج أن اللغة ظاهرة اجتماعية، لأن الإنسان مؤهل وراثياً وجينياً أن يتحدث اللغة، لكن ليس معنى ذلك أنه يجب أن يتحدث اللغة في كل الأحوال، إلا في رحم المجتمع.

التمييز بين المصطلحات العلمية

يجب التمييز بين:

  • Active و Passive
  • Positive و Negative
  •  Passive: ليس معناها سالب، معناها فاتر، في موقف الانتظار، منفي المبادرة
  • Active: المبادر الفاعل الذي لا يترك الأوضاع تمشي كما هي، يتدخل دائماً في توجيهها
  • Negative: موقف سالب لكنه موقف، وقد يكون هذا الموقف السلبي نشطاً (Active) أو فاتراً (Passive) مثال من الحديث الشريف النبي ﷺ قال عن بني أمية: "يهلك هذه الأمة هذا الحي من قريش". فسُئل: ماذا نفعل يا رسول الله؟ قال: "لو أن الناس اعتزلوهم". هذا موقف سلبي (Negative) ومطلوب. هذا روح الإيجابية - موقف عصيان مدني، موقف مقاطعة، موقف محاصرة.

مثال قرآني: تفسير آية الإهلاك "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" يمكن أن تكون أمة مشركة كافرة لكن أهلها مصلحون. الإصلاح هنا ليس الصلاح الديني، بل الإصلاح الحضاري العمراني السُنني. هناك دول وأمم وشعوب وحضارات كافرة مشركة وثنية لكنها طورت نظماً وآليات للتناصف ولدفع التظلم جعلتها أكثر عدلاً وإنصافاً من أمم أخرى.

الصمت وثقافة الصمت، لكن بمعنى آخر:

  1. هناك ثقافة صمت
  2. هناك مجتمع صمت
  3. هناك آليات تصميت وتسكيت

لكن بأي معنى؟ بمعنى أن الصمت لغة تحتاج إلى: نريد أن نحاول استنطاق وترجمة لغة الصمت، لا أن نتعامل معها بالمعنى العام المبسط والمختزل على أن الصمت فعلاً صمت أو فراغ مطلق. لأن أبسط مفردات لغة الصمت الاجتماعي: أنها تسجل موقفاً دائماً بالمصادقة والموافقة على الوضع القائم، حتى لو ادّعى الصامت العكس.

 الصمت كلغة وأداة قمع

ثقافة الصمت هي النظام الاجتماعي الذي يسود فيه السكوت عن المنكر والظلم والتمييز والاضطهاد. وهي تُترجم عملياً إلى مصادقة ضمنية على هذه الممارسات، حيث أن الصمت إزاء الظلم يُفسر كموافقة عليه.

الصمت كطاقية الإخفاء السحرية: إن ثقافة الصمت تمنح الظالمين والمضطهدين والقاهرين ما يشبه "طاقية الإخفاء السحرية" المذكورة في الأساطير. فهؤلاء المنتفعون والطفيليون والخارجون على مصالح الأمم يتحركون بحرية تامة في جميع الأوساط:

  • الثقافية: حيث يسيطرون على الخطاب الثقافي
  • الاجتماعية: من خلال التحكم في العلاقات الاجتماعية
  • الدينية: باستغلال المنابر الدينية
  • السياسية: عبر الهيمنة على القرار السياسي
  • الاقتصادية: من خلال السيطرة على الموارد
  • العسكرية: باستخدام القوة والإكراه

وكل ذلك يحدث دون محاسبة أو مساءلة، لأن ثقافة الصمت تحميهم وتمنحهم الأمان الكامل.

تأثير ثقافة الصمت على المثقف

ثقافة الصمت تؤدي بالضرورة إلى حالة من الاغتراب لدى المثقف، والاغتراب في جوهره هو الانفصال، وله عدة أشكال:

أنواع الاغتراب

1.   الاغتراب الحسي عن اللاحسي: انفصال الروح عن البدن

2.   الاغتراب الديني: انفصال الإنسان عن الله أو القيم الروحية

3.   الاغتراب الفكري: انفصال المثقف عن أفكاره ومبادئه

4.   الاغتراب الاجتماعي: انفصال الفرد عن مجتمعه

مما يخلق  مثقف نرجسي، يرى نفسه الوصي على أفكار المجتمع واتجاهاته الثقافية، ويعتبر نفسه متفوقاً على "الجاهل العربجي" الذي لا يفهم شيئاً، ويفتقر إلى الوعي النقدي الذاتي اللازم لمراجعة أفكاره وطروحاته، وهذا ما أدى إلى  فشل المثقف في إثبات مشروعيته، مما يدفعه أحياناً إلى الارتداد على نفسه ورهن ذاته للسلطة التي قضى حياته في شجبها، أو بيع نفسه للسلطة وتبرير ممارساتها باسم الثقافة والفكر، أو الوقوع في دوامة النفعية والوصولية.

مشكلة العلاقة بين المثقف والسلطة: ثنائية السلطة والمثقف

تُشكل العلاقة بين المثقف والسلطة في العالم العربي والإسلامي معادلة معقدة، حيث: يزعم المثقف أنه يريد التحدث باسم الجماهير والمقهورين، ويسعى لتبرئتهم من ظلم وعسف السلطة المتوحشة والمتجبرة، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يدرك طبيعة سلطته كمثقف. لأنه يقيم ثنائية حادة بين الثقافة والسلطة، ولا يدرك أن: الثقافة نفسها هي سلطة، وأي سلطة، تتحرك في مستوى طيفي متنوع، لكن المطلوب هو تغيير فهمه للسلطة وليس مجرد معارضتها.

نقد الأيديولوجيات والحلول الجاهزة

الايديولوجيات والحركات السياسية تدعي امتلاك حلول نهائية وشاملة، وهذا أمر خطير لأنه: يؤدي إلى جمود فكري، و يمنع الاستفادة من تطور الحياة وتغير الواقع، وتفرخ أجيالاً لا يتقدم آخرهم عن أولهم، لهذا المطلوب من المثقف الاعتراف بنسبية المعرفة الإنسانية، وقبول احتمالية الخطأ في الاجتهادات، إضافة إلى الانفتاح على المراجعة والتطوير المستمر، هنا تأتي خطورة الفراغ  و ترك المساحات الفارغة الصمت يترك مساحات فارغة لابد أن تُملأ بالتأويل، مما يزيد من: احتمالية الانتهاك والاستباحة.

الصمت ليس حكمة

المقولة الشائعة "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" ليست حكمة، بل هي: تعويذة الخائف في مجتمع الاضطهاد، وطريقة خرافية في التعاطي مع الواقع، وسيلة للحفاظ على الذات على حساب المصلحة العامة، هنا يمكن التناقض بين المصلحة والغاية، لأن الإنسان بدون أخلاق وقيم مجتمعية تغيب عنه كل الأبعاد الوجودية التي تدفعه لتعبير عن حقوقه والدفاع عن حقوق الإنسان، لهذا فإن مواجهة ثقافة الصمت تتطلب شجاعة فكرية ونضجاً معرفياً وإدراكاً عميقاً لطبيعة التحديات التي تواجه مجتمعاتنا. وهذا لن يتحقق إلا بكسر حاجز الخوف والانطلاق نحو فضاء أرحب من الحرية الفكرية والتعبير الصادق عن الحقيقة.

1.   رفض الصمت على الظلم والاضطهاد

2.   تطوير وعي نقدي حقيقي لدى المثقفين

3.   تجاوز النرجسية الفكرية والاستعلاء الثقافي

4.   تبني التواضع المعرفي والانفتاح على المراجعة

5.   رفض الحلول الأيديولوجية الجاهزة

6.   التفاعل الإيجابي مع الواقع بدلاً من الهروب منه

 

تعليقات