تشكل التربية
ممارسة يومية ارتبطت بظهور المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن درجة تقدمها وتحضرها.
وقد كان الهدف الأساسي من ممارسة التربية هو مساعدة الإنسان على التكيف مع محيطه
الطبيعي والاجتماعي والثقافي، ومن أجل ذلك يحتاج الالتزام بمجموعة من القيم
والمعايير المشتركة التي تمنحه حق الانتماء.
فما هو مفهوم التربية؟
فمفهوم التربية مفهوم واسع يتضمن مجالات عديدة
ومختلفة، كما أن عملية التربية تشمل أبعادا مختلفة لشخصية الإنسان مثل البعد
العقلي والجسدي والنفسي والاجتماعي والتي تحتاج كلها للتربية والنمو والتوجيه. غير
أن ما نلاحظه في الغالب هو ارتباط التربية لدى الكثير من الناس بالممارسة التربوية
داخل مؤسسات التعليم فقط، في حين أن للأسرة والإعلام وجماعة الأقران والشارع
والمجتمع عموما دور لا يخفى في تربية الإنسان.
ولعل السبب وراء
هذا التوجه يتمثل أساسا في كون التربية الأكثر تنظيما وعقلنة تتم داخل المدرسة وتغطي فترة مهمة من عمر
الإنسان الذي يحتاج فيه إلى التربية والتوجيه.
حيث أصبح
الاهتمام بمرحلة الروض يفوق أحيانا الاهتمام بالمدرسة ذاتها. ويرجع ذلك إلى
الاكتشافات الحديثة لعلم النفس وتسليطه الضوء على المراحل الأولى من حياة الإنسان
وأهميتها في التأثير على مساره المستقبلي. فما المقصود إذن بالتربية؟ وما هي
المحطات التاريخية للفكر التربوي؟ وما هي الأشواط التي قطعها في طريقه نحو النمو
والتطور؟
1- تعريف التربية
في المعجم
الفلسفي لجميل صليبا: التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله، أو هي كما يقول
المحدثون تنمية الوظائف النفسية بالتمرين حتى تبلغ كمالها شئيا فشيئا. وربيت الولد
إذا قويت ملكاته ونميت قدراته، وهذبت سلوكه، حتى يصبح صالحا للحياة في بيئة معينة.
وفي معجم العلوم
السلوكية: تشير كلمة التربية إلى التغيرات التي تحدث للفرد سواء على المستوى
المعرفي أو الاتجاهات أو السلوك نتيجة التعلم المدرسي، وتعني أيضا نمو الفرد
الناتج عن الخبرة أكثر من النضج.
وفي اللغة
الفرنسية نجد أن هناك لفظين مقابلين لكلمة التربية بينهما فارق دقيق في المعنى
وهما
Education ثم Pédagogie حيث نلاحظ أن اللفظة الأولى تتجه إلى
الممارسة العملية للتربية التي تهدف إلى تنمية طاقات وقدرات الفرد العقلية
والبدنية والنفسية والاجتماعية سواء بشكل عام أو متخصص. في حين تشير اللفظة
الثانية أي
Pédagogie إلى
الجانب النظري والعلمي المتعلق بالعملية التربوية.
ويذهب بعض
الباحثين إلى التمييز بينهما بشكل آخر. فبالنسبة لموريس دوبيس Maurice Debesse يخصص كلمة Education لعملية التكوين التدريجي التي تنقل
الطفل إلى مرحلة الرشد، بينما تشير كلمة Pédagogie في رأيه إلى مجموع الوسائل والتقنيات
التي تستخدم لتحقيق هذه الغاية.
وفي معجم
السيكولوجيا يعرف
Norbert Sillamy (1983) التربية بأنها فن تطوير الخصائص الأخلاقية والعقلية والنفسية للطفل.
فالتربية لا تتوخى تغيير الطبيعة لدى الفرد، وإنما تهدف إلى مساعدته على النمو
بشكل منسجم داخل محيطه.
من خلال هذه
التحديدات اللغوية نجد أن التربية عملية متدرجة تهدف إلى بلوغ الجودة والإتقان،
وذلك بتدريب الإنسان وتنمية ملكاته وقدراته، مما يساعده على التكيف الإيجابي مع
البيئة التي يتفاعل معها. لكن الأمر يتطلب من الفرد تغييرا على مستوى التمثلات
والاتجاهات والسلوك كلما واجه وضعيات جديدة في الحياة.
والتربية بهذا المعنى تفيد أيضا النمو والتغيير
الذي يحدث في مختلف جوانب شخصية الإنسان البدنية منها والعقلية والنفسية
والاجتماعية، نتيجة تأثيرات البيئة واكتساب الخبرات.
وإذا أردنا تحديد التربية بمعناها الواسع فإننا نجدها قائمة على
التفاعل الاجتماعي حيث تتضمن مختلف التأثيرات التي تمارس على الإنسان طيلة حياته
من خلال المؤسسات الاجتماعية وذلك بهدف تنشئة الفرد وإكسابه المعلومات والعادات
والمهارات والقيم والمعايير والاتجاهات التي تمكنه من الاندماج والتوافق
الاجتماعي.
بهذا المعنى فإن
التربية تشمل التأثيرات التي تمارس على الإنسان بهدف نقل عادات أو مهارات أو
معلومات إليه في أي عمر كان منذ الولادة حتى الشيخوخة، سواء تم ذلك بشكل منظم وواع
أو بشكل عفوي.
نظرة تاريخية عن ظهور وتطور الفكر التربوي
من الصعب جدا أن
نقول بأن الفكر التربوي هو نتاج لمجتمع دون آخر أو لحضارة دون أخرى. بل كل
المجتمعات ساهمت بطريقتها الخاصة ووسائلها المتاحة في إيجاد نوع من التربية يتماشى
مع أخلاقها وقيمها وثقافتها، بل إنها قد تختلف أو تتشابه مع غيرها في اختيار هذا
الأسلوب أو ذاك تبعا للأهداف والغايات التي ترمي إلى تحقيقها.
وهذا التنوع والاختلاف يؤدي في النهاية إلى
إغناء المسيرات العلمية بشكل عام. فقد كان
للثقافة اليونانية إسهاماتها التربوية على يد كل من سقراط وأفلاطون... وغيرهم كما
ساهمت الثقافة الإسلامية في بناء الأسس الأولى للفكر التربوي على يد جماعة من
الفلاسفة والمفكرين مثل بن طفيل وأبي حامد الغزالي وبن خلدون... وغيرهم، كما كان
للثقافة الغربية دور هام في بعث وتطوير الفكر التربوي حسب ما تتطلبه المرحلة
الراهنة من تغيير وتطوير في الأفكار.
لذلك غالبا ما
نجد مؤرخي التربية وعلم النفس يرجعون إلى أعمال جون جاك روسو باعتبارها أول دعوة
لبناء التربية على أسس علم النفس من خلال قولته الشهيرة " إبدأوا بمعرفة
تلاميذكم لأنكم قطعا لا تعرفونهم." من كتاب Emile(1762) وقد اشتمل هذا الكتاب على عدة آراء
جريئة بالنسبة لفكر القرن 18 منها: اعتبار الطفولة واقعا نفسيا مختلفا عن واقع
الراشد وهو ما يؤكده روسو بقوله: "إن الطفل ليس راشدا من حجم صغير."
ولذا يلزم
احترام خصوصية الأطفال هذه لإتاحة الفرصة لهم كي يعيشوا طفولتهم كأطفال، وألا يجعل
منها الكبار فترة لتعليم نمط حياتهم للصغار. وقد اعتبر روسو الطفولة فترة نمو
تدريجي يتم عبر أربع مراحل: تبدأ بالميلاد وتنتهي بالمراهقة، وتتطلب كل مرحلة منها
تربية خاصة بحيث يمكن اعتبار هذا العمل أول محاولة نموذجية لبناء نظرية تربوية
ارتقائية على أساس أفكار علم النفس الارتقائي.
مع بداية القرن
العشرين فقط سيبرز اهتمام علماء النفس من جديد بمشكلات التربية، وفي هذه الفترة
لمع اسم عالم النفس الفرنسي ألفريد بينه Alfred Binet كأحد مؤسسي البيداغوجيا التجريبية.
ولعل تأخر الاهتمام بمشكلة التربية يعود إلى أن
علم النفس في النصف الثاني من القرن 19 أي في مرحلة التأسيس كان مستغرقا في دراسة
الظواهر النفسية البسيطة المرتبطة بالإحساس خاصة، والتي ليست لها أهمية واضحة في
فهم الموقف التربوي المعقد.
وفي نفس الفترة
أصدر ثورندايك
Thorndike كتابه
علم النفس التربوي الذي بحث فيه إمكانيات بناء التربية على أسس نفسية، في حين كان
اهتمام كلاباريد متجها إلى تطبيقات علم النفس في مجال تربية الأطفال غير الأسوياء.
ولا ننسى في هذه العجالة التاريخية أن نذكر
أعمال الفيلسوف الأمريكي جون ديوي J Dewey التي بدأت سنة 1895 بنشر مقاله حول "الجهد والاهتمام"
الذي يعتبر انطلاقة لعلم النفس الوظيفي.
لقد اعتبر ديوي أنه
يستحيل من الناحية النفسية إثارة سلوك دون وجود نوع من الاهتمام لدى الشخص، وبناء
على ذلك دعا إلى ممارسة تربية مستجيبة لحاجات المتعلم واهتماماته وأنشطته.
وقد قام ديوي
نفسه بتجربة هذه الطريقة التربوية في المدرسة المختبرEcole Laboratoire التي أنشأها سنة 1896 في شيكاغو، حيث
طبق منهج المشروعات الذي يتطلب من المتعلم وخصوصا الطفل القيام بأبحاث لحل
المشكلات التي تواجهه. وتعتبر التربية الاجتماعية محور اهتمامات ديوي الذي
كان يهدف إلى تحقيق اندماج الطفل على أحسن صورة ممكنة في المجتمع.
وبعد
النصف الأول من القرن العشرين برزت العديد من النظريات والتصورات في مجال علوم
التربية تسعى إلى خلق التوزان النفسي والذهني، حيث كثر التجديد في الطرق التربوية
وبالخصوص من خلال استغلال المكتشفات العلمية الحديثة في العملية التربوية وتحسين
نوعيتها وزيادة مردوديتها.
التربية وعلوم التربية: من المفرد إلى المتعدد
ارتبطت التربية
في بدايتها بعلم النفس واستفادت كثيرا من معطياته في تفسير الظاهرة التربوية من
جانبها السيكولوجي، حيث عرف العقد الأول من القرن العشرين ميلاد علم النفس التربوي
الحديث.
إلا أن العقد الثاني عرف انفتاحا أكبر على
المكتشفات العلمية الحديثة كما استفادت التربية من العلوم المعرفية الأخرى مثل
السوسيولوجيا والفلسفة واللسانيات والفيزيولوجيا، والعلوم العصبية والمعلوميات...
في توسيع نظرتها
للظاهرة التربوية وتفسيرها من مختلف الأبعاد المكونة لشخصية الإنسان، مما أدى إلى
إعادة النظر في تسمية التربية بصيغة المفرد، واستبدالها بمصطلح علوم التربية
المتعدد الذي يؤكد على تنوع الجوانب التي يتوجه إليها الفعل التربوي، وكذلك إلى
الحاجة إلى تظافر علوم مختلفة للإحاطة بها. وقد أفرز هذا التحول ظهور تخصصات أخرى
تدخل ضمن علوم التربية من قبيل: فلسفة التربية -سوسيولوجيا التربية – فيزيولوجيا
التربية – تكنولوجيا التربية ... وغيرها من التخصصات.