مفهوم: الحرية
يدل لفظ الحرية بمعناه الفلسفي على قدرة الفرد على اختيار غاياته والتصرف
وفق إرادته الخاصة، دون تدخل عوامل تؤثر في تلك الإرادة. والحرية بهذا المعنى تخص
الإنسان، غير أن هذه الحرية تضع الإنسان فوق جميع كائنات الطبيعة، تبدو متعارضة مع
مبدأ الحتمية الذي تخضع له على نحو ثابت كل واقعة.
إذا كانت الحرية هي التخلص من الحتمية، أي غياب
الإكراه والحرمان على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية: فهل يستطيع
الإنسان أن يحيا حريته الفعلية ويتخلص من إكراه الحتميات الموضوعية التي تشرط وجوده؟
أم أنه يتعايش مع الحتمية والحرية معا؟ وهل تتجاوز إرادته الإرادة الكونية الصارمة
أم تقف عند حدود الوعي بها ومواتاتها؟ وما علاقة الحرية بالقانون الذي ينظم المجتمع؟
وهل بوجود الدولة تتحقق الحرية أم تتعطل؟
المحور الأول: الحرية والحتمية.
هل
الحرية نقيض الحتمية أم أن الوعي بالحتمية يشكل أساس الحرية؟ ماذا تعني الحرية؟
وماذا نعني بالحتمية؟ وكيف يمكن النظر إلى سلوكات وأفعال الإنسان؟ هل بوصفها
أفعالا تصدر عن ذات حرة؟ أم بوصفها أفعالا تصدر عن ذات حرة؟ أم بوصفها أفعالا
ناتجة عن حتميات محددة؟
الحرية ترتبط بالاختيار، فنقول حرية الاختيار، والاختيار ترجيح الشيء
وتخصيص، وتقديمه على غيره، ولحرية الاختيار عند القدماء معنيان:
Ø
الأول كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ
لم يفعل.
Ø والثاني: صحة الفعل والترك. بمعنى أن المختار هو
القادر الذي يصح منه الفعل والترك، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك.
Ø
وحرية الاختيار عند الكندي مثلا: إرادة تتقدمها روية مع تمييز، أما عند ماركس
فالحرية هي وعي الضرورة والسيطرة عليها بالممارسة.
تعريف الحتمية:
Ø
أما الحتمية فهو مفهوم علمي وفلسفي يدل على
أن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة مقيدة بشروط توجب حدوثها اضطرارا.
Ø تعني الحتمية أن القانون عام يسود الظواهر
الطبيعية والظواهر الإنسانية، وهو المبدأ القائل بأن جميع الظواهر محددة بأسباب
سابقة، وبمقتضاه تسمح لنا معرفة هذه الأسباب السابقة بالتنبؤ بما ينتج عنها من
نتائج بصورة يقينية أو احتمالية.
موقف عبد الله العروي:
يذهب عبد الله العروي إلى أن تجدد البحث في
الحرية لا يعود إلى أسباب اجتماعية وسياسية كالحريات الليبرالية أو النظريات
الفلسفية التي تناقش الحرية فقط، بل يعود بالأساس إلى تطور العلم الذي قدم نفسه في
بدايته كوسيلة تنويرية لتحرير الإنسان من قيود الحاجة والطبيعة وتوسيع دائرة الحرية،
إلا أن التطور الذي حصل في العلم أصبح يشكل خطرا على الحرية، فالعلم يقوم على مبدأ
الحتمية وهي نقيض الحرية كما يراها الإنسان العادي، هذا ما أدى إلى تخوف
الإنسان على حريته من وسائل التحكم التي ينتجها العلم ويتوصل إليها يوما بعد يوم.
فقد كان علماء العصر الحديث يتصورون العلم على أنه المشروع التنويري الذي
سيحرر الإنسان من عبودية الطبيعة، وسيمدهم بوسائل السيطرة عليها وتسخيرها لصالح
الإنسان، ولكن ما حدث كان عكس ما رغب فيه الإنسان وما كان يتمناه، وهو أن العلم
أصبح يشكل خطرا على الحرية ووسيلة لتقييد الإنسان واستبعاده.
لقد انتشر الشك
في الحرية الإنسانية من طرف أغلب علماء الطبيعة لدرجة جعلت بعض العلماء يقولون بأن
الحرية الإنسانية مجرد وهم يخفي جهل الإنسان بالأسباب التي تحركه. فتقدم العلم
أظهر مدى جهل الناس بدوافعهم واختياراتهم الحقيقة. فالعالم الإحيائي يطرح السؤال
التالي: هل في الإرث الإحيائي ما يسير المرء في كل مسعى من مساعيه إلى ما فيه
مصلحة النوع البشري؟ أو ليس مبدأ التحليل النفسي هو أن المرض خضوع اللاوعي
الذي يعبر عن إرث النوع ورض الولادة وأذكار مرحلة الصبا وأن الصحة هي الوعي بكل
ذلك الإرث وقبوله والتعبير عنه بوسائل العقل للتحرر منه؟
إذا كان تجدد الدوافع حول الحرية في القرون الوسيطة راجع إلى إشكالية الجبر
والاختيار، أي محاولة التوفيق بين القدر والقضاء الإلهي والاختيار الإنساني، فإن
النقاش الحالي حول الحرية يعود إلى محاولة التوفيق بين حرية الإنسان وحتمية العلم
الطبيعي. لا يمكن طرح مشكلة الحرية بدون إدخال الحتمية الطبيعية التي توصل إليها
العلم الحديث أو العلم الإنساني والذي أظهر أن الإنسان يخضع لمجموعة من
الإشراطات والاختيارات والإرادات المشروطة.
في سياق الدفاع عن الحرية الإنسانية نجد كارل بوبر يرفض القول بالحتمية
المطلقة، كما يرفض في نفس الوقت القول بالحرية المطلقة، ويؤكد على أن الإنسان
حر في حدود الظروف والسياقات...
إن
الطرح القائل بأن الإنسان خاضع للحتمية، ينطلق من الطرح القائل بأن الإنسان جزء من
الطبيعة، وبما أن الطبيعة خاضعة لقوانين مطردة، ولنظام تتصل فيه النتائج بالأسباب
اتصالا ضروريا، فإن أفعال الإنسان خاضعة لمثل هذه القوانين الحتمية، كالحتمية
البيولوجية، وجود شرائط بيولوجية وراثية، وحتمية سيكولوجية، والتقيد بالعوامل
الشعورية واللاشعورية والمقيدة بعوامل عضوية.
سبينوزا مثلا يرى بأن الناس مخطئين في الاعتقاد
بأنهم أحرار؛ وهذا الرأي لا يكمن إلا في وعيهم بأفعالهم وجهلهم بالأسباب التي
تجبرهم على القيام بها.
موقف كارل بوبر:
يرفض بوبر
هذا الطرح الذي ينظر إلى الإنسان كآلة مسلوبة الحرية، لا حول له ولا قوة، ويقدم
برهانا مضادا للبرهان دعاة الحتمية يتجلى في القول بأن الإنسان لو كان حرا بشكل
جزئي، لكان نظام الطبيعة حر حرية جزئية كذلك.
هذا يدفع إلى
القول بحرية الإنسان حتى ولو كانت حرية جزئية. إن دعاة الحتمية يذهبون إلى القول
بنوع من القدرية العمياء التي يخضع لها العالم الطبيعي، والتي ترى أن كل ما يحدث
في الكون محدد بشكل قبلي، وبالتالي كل شيء قد قدر بشكل أزلي، مما يجعل الإنسان
مسيرا لا مخيرا.
يعتقد هؤلاء بأن كل ما يقع من حوادث في مجال
الظواهر الطبيعية والأفعال الإنسانية مقدر من قبل ولا بد أن يحدث ولا مجال للهروب
منه. وهذا النظام أشبه بالأسطوانة، إنها تدور بحرية، لكن حركتها هذه محددة
بطبيعتها كأسطوانة وخاضعة لقوانين الضرورة العاقلة. والإنسان لا يملك قط أن يغير
مصيره. وما عليه، إذا أراد أن يكون حرا حرية الأشياء داخل الضرورة، إلا أن يتقبل
ما يحدث له من شرور بما فيها الموت، برضا وغبطة، لأنها أمور ضرورية لا محيد عنها.
هذا القول في نظره مردود، فمن العبث القول بأن جميع الإبداعات
الإنسانية من فن وموسيقى يمكن أن تفسر بقوانين الكيمياء والفيزياء، وأن العناصر
الذرية مكونة للكون تتضمن جميع الأحداث التي ستحدث في المستقبل وبذلك نسقط في
القدرية القبلية.
إن القول السابق ينسى أن الإبداع الفني مثلا يتطلب أولا تمثلا وهضما
وإلماما بالإبداعات السابقة وقوانين وقواعد هذا النوع من الإبداع. مما يقود
إلى الإقرار بالحرية الإنسانية لكنها تظل محدودة بالسياقات والظروف، فالإبداع
الفني مثلا تتحكم فيه ثلاث محددات هي: إكراهات العالم الخارجي، ومحددات عالم
الوجدان والأحاسيس، وقوانين عالم الفكر والتمثلات الفكرية. إن الإنسان
حر، لكن حريته ليست مطلقة، بل محدودة، فبوبر يرفض فكرة الحتميات الطبيعية
والنفسية والاجتماعية التي اعتمدتها بعض الاتجاهات الوضعية في العلوم الإنسانية.
تركيب عام للمحور الحرية والحتمية:
يتبين من خلال التصورات السابقة وجود
تباين حاد بشأن خضوع الفعل الإنساني للحرية، أو خضوعه للحتمية. وهو ما لمح إليه
عبد الله العروي حينما أكد على دور العلم المعاصر في خدمة الحرية أو محاصرتها. وهو ما
لا يراه مناصر النزعة اللاحتمية كارل بوبر الذي يزكي نزعة التحرر الإنسانية رغم
أنه لا يعتبر الحرية معطى مطلقا.