منهجية تحليل القولة الفلسفية: نموذج تطبيقي العدالة بين الانصاف والمساواة

 



منهجية تحليل القولة نموذج تطبيقي:

" يقتضي مبدأ العدالة المساواة إلا في الحالة تكون فيها اللامساواة مفيدة اجتماعيا"
أوضح مضمون القولة، وبين أبعادها

1-مطلب الفهم:

تتناول القولة التي بين أيدينا موضوعا سياسيا يتعلق بمبادئ العدالة وتجلياتها، لأن الغاية الكبرى لكل سياسة حكيمة وشرعية ومشروعة إنما هي تحقيق العدالة، وإذا كانت العدالة مبدأ معياري شرعي يقترن بمجموع القوانين الوضعية وبالمعايير الأخلاقية المشروعة التي يعتمدها مجتمع ما في تنظيم العلاقات بين أفراده فيما يخص الحقوق والواجبات، من خلال مجموع المؤسسات السياسية التي تسهر على تنظم العلاقات بين الناس في الواقع الاجتماعي، مثلما ترتبط أخلاقيا بالفضيلة الأسمى للنفس وللمجتمع وبالمثل الأعلى الذي تصبو إليه كل المجتمعات في مقابل ما هو كائن.

 الشيء الذي يدفعنا إلى طرح مفارقات عن كيفية تحققها في الواقع الإنساني ذلك أن الواقع البشري يعرف التفاوت بين الأفراد، بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في الحظوظ والمؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية والكفاءات: الشيء الذي يثير جملة من التساؤلات:

هل ينبغي تطبيق العدالة بينهم بالتساوي بحيث يكون الجميع سواسية كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟  هل قيام العدالة الفعلية يشترط تحقيق مبدأ المساواة بين الأفراد أم لا بد من التفاوت والاختلاف الطبيعي بينهم في قدراتهم وعملهم؟ وهل العدالة مساواة أم إنصاف؟

2-مطلب التحليل:

يدافع صاحب القولة عن أطروحة مفادها أن العدالة تقوم على مبدأ مساواة ويستثنى، الحالة التي تكون فيها اللامساواة مفيدة اجتماعيا، والمستفاد من ذلك أن العدالة حسب صاحب القولة تقوم على أساسين:  أول ويشكل لزومي على قاعدة أو أصل عام ثابت وهو المساواة المبدئية، ومن جهة ثانية على مبدأ استثنائي ومشروط وهو اللامساواة المفيدة اجتماعيا واقعيا.

وبذلك فإن للعدالة أساس أول مبدئي عام وثابت وهو مفهوم المساواة: بمعنى أن أساس العدل هو حفظ التكافؤ والتساوي بين جميع الأفراد على مستوى القانوني بحيث تكون العدالة هي إعطاء كل ذي حق حقه حيث الحق ثابت رغم غياب الاستحقاق فهي التطبيق الحرفي للقوانين حيث لا تفاضل فيه بين المواطنين ولا تمايز ما يحقق قانونيا المواطنة لكل الأفراد بلا تمييز، وما يضمن أخلاقيا وحدة الكرامة لكل البشر بلا عنصرية حيث الكل سواسية أمام القانون وهذا ما تنص عليه الدساتير وإعلانات حقوق الإنسان.

كما للعدالة أساس ثاني واقعي واستثنائي ومشروط وهو مفهوم اللامساواة المفيدة اجتماعيا: بمعنى أن العدل يقوم أيضا على إمكانية خرق قاعدة المساواة متى تبين فائدة ذلك الفرق اجتماعيا فتكون العدالة في هذا الصدد إنصافا، وهو إعطاء كل ذي حق على نحو يحفظ تفاوت الناس بالنظر لتفاوت واجباتهم أو كفاءاتهم، واختلاف أوضاعهم، لكن هذا التفاضل لابد أن يكون نفعه عائدا على المجتمع ككل، وليس محصورا على أفراد معدودين أي لابد أن يحقق مصلحة عامة للمجتمع.

إذن مما سبق، يمكن القول إن صاحب القولة يقر بضرورة اللامساواة لتحقيق العدالة، مما يدل أنه يرى في المساواة ضررا ما أو ظلما أو عدم كفاية كأساس للعدالة، فلماذا ليست العدالة مجرد مساواة؟ ولماذا تعتبر اللامساواة المفيدة اجتماعيا مشروعة للعدالة؟

إن للعدالة أساس أول مبدئي عام وثابت وهو المساواة لكنه غير كافي كأساس للعدالة حسب صاحب القولة، ولعل ذلك عائد إلى أن المساواة قد تفوت المصلحة الخاصة أو العامة، كمثل الاضرار بالمتفوق والمجتهد مدرسيا، في حالة مساواته بالمتكامل والمتقاعس على مستوى النقط، فهي تجعله يتكاسل ولا تفيد المتكاسل، إذ تزيده تقاعسه، ثم أن المساواة المطلقة ظالمة لتفاوت الواجبات، ما يؤدي إلى الاخلال بمبدأ التوازن بين الواجب والحق. وهو ما نجد مثلا قانون الارث الاسلامي بين الذكر والأنثى يحفظه مثلا من خلال تفاوت القسمة بينهما بالنظر، لأن مسؤوليات الذكر أكبر من الأنثى. وهذا ما يجعل اللامساواة المفيدة اجتماعيا باعتبارها عدالة، ما تلمسه من أثار ايجابية لها مثال ذلك أن تفاوت الأجور باعتبار تفاوت الكفاءات والخبرة.  مما يساهم في تطوير هذه الأخيرة، وفي الرفع من مردودية العمل اجتماعيا وفرديا. ومثال أن تفاوت العقوبات باعتبار تفاوت الظروف أحيانا، يساعد في إصلاح ما يمكن إصلاحه، بحيث يتعين تشديد العقوبة حينا وتخفيفها أحيانا أخرى فالسارق الجائع للرغيف لا يقارن بالسارق قاطع الطريق عن سبق إصرار وترصد.

3-مطلب المناقشة:

لهذه الأطروحة قيمة إيجابية على مستوى ما تحمله من أبعاد عدة منها على مستوى البعد الاجتماعي، فهي تؤكد أن مراعاة اللامساواة كمبدأ من مبادى العدالة من شأنه أن يحفظ تفاوت المؤهلات والمواهب ما ينعكس على المجتمع ايجابيا وعلى مستوى البعد الاقتصادي، إذ الدعوة للفائدة الاجتماعية كأساس للامساواة العادلة هو ضرب من التغير على المنافسة والتي تحقق النمو والجودة الانتاجية.

وعلى مستوى البعد الحقوقي، فإن حفظ قدر من التفاوت هو بحد ذاته حق، إذ يرتبط بالحق في الإنصاف والذي يمكن تسويفه بتفاوت الواجبات أو المخاطر والتي في حالة المساواة قد يكون فيها ظلما لطرف على حساب الآخر، أو طبقت كما أن صاحب القولة لا يرى أن هذه اللامساوة إلغاء لمبدأ المساواة، بل هي دعم له.      

بيد أن لهذه القولة رغم صفها وقوتها حدودا لابد من التنبيه لها ومنها: أن ربط العدالة بالمنفعة يهدد ثباتها لغياب الثبات عن المنافع والمصالح فما قد يكون نافع للفرد قد يتعارض مع النافع للمجتمع. الشيء الذي قد يؤدي إلى تبرير الاستغلال بعضهم لبعض، ما يهدد كرامة الإنسان الفقير مثلا في مقابل الغني ثم أن ربط منفعة اللامساواة الاجتماعية بمبدأ المماثلة القانونية الغير واضح المعنى ومتناقض، إذ منطقيا لا يمكن الجمع بين القاعدة والاستثناء فكل استثناء يلغي شمولية وثبات القاعدة.

وفي هذا السياق نرى موقف  أفلاطون الذي يرى أن العدالة في تصوره تتحدد كفضيلة يتحقق بواسطتها الانسجام والتوازن بين القوى المتنافرة عند الفرد وعند المجتمع، فعلى مستوى الفرد تعني العدالة ذلك النظام والتوافق بين مكونات النفس الثلاث (القوة العاقلة، القوة الغاضبة، القوة الشهوانية)، وعلى مستوى الدولة ترادف العدالة ذلك الانسجام بين الطبقات الثلاث (طبقة الحكام، طبقة الجيش، طبقة العبيد)، إذ لكل صنف من الناس عمله ولا يجوز له التدخل في شؤون الآخرين، يقول أفلاطون: "من العدل أن ينصرف المرء إلى شؤونه دون أن يتدخل في شؤون غيره"، والعدالة هي التي تجعل جميع المواطنين يؤدون وظائفهم بمحض مؤهلاتهم وانتمائهم الطبقي، دون أن يعتدي أحد على أحد، وذلك من أجل "إضفاء الكمال على الدولة".

وإذا كانت اللامساوة المفيدة اجتماعيا فإن الفيلسوف الألماني ماكس شيلر يذهب أبعد من ذلك ويعتبر اللامساواة عموما هي عينها العدالة لأن العدالة القائمة على المساواة تولد الظلم والجور إذ انها تتأسس على الكراهية والحقد أي حقد الجبناء ضد الأقوياء وفي المقابل يدعو لتأسيس العدالة على الإنصاف كفعل يقوم على احترام الفوارق والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية بين الناس على أرض الواقع الإختلاف قدراتهم ومؤهلاتهم وهو يعتبر أساسا للعدالة المنصفة فاللامساواة واقع طبيعي، بل أن هذا التفاوت واللامساواة إيجابي وخلاق في نظره، و يمكن الاستشهاد بمثال توضيحي  في مقاولة تجارية مثلا فهذا يجعل المال أكثر حرصا على اتقان العمل فترتفع المردودية وهو ما قد يسمح للشركة بفتح فروع جديدة فيستفيد عمال جدد، أما المساواة فقد تكون مدخلا لكسل العمال.

أما الفيلسوف الأمريكي جون راولز فيكاد يتطابق قوله مع قول صاحب القولة فكلاهما يعتبر أن العدالة انصاف ومساواة في الآن نفسه بل وتمثل مقاربة رولز أقوى توضيح وضبط المعنى الجمع بينهما، إذ وضع ضوابط لذلك فالعدالة حسب راولز تقوم على قاعدتي المساواة والإنصاف،  أولهما المساواة لأن كل الناس أحرار ولهم الحق في النسق الموسع للحريات الأساسية و هذا النسق الموسع للحريات ينتج  فوارق اجتماعية واقتصادية بين الناس (الاختلاف) لكن شريطة أن تنظم هذه اللامساواة الاجتماعية بإنصاف وهذا مبدأها الثاني لكن بالكيفية الآتية: أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا أي ضحايا النظام الرأسمالي من خلال ضمان مبدأ التكافل والتعاون الانصاف الاجتماعي وأن تكون نابعة من مبدأ تكافؤ القرص في الوظائف والمراكز المساواة القانونية.

4-تركيب:

ومجمل ما تستخلصه مما سبق أن العدالة قضية شائكة، وأسمها تجمع بين المتناقضين فهي مساواة وإنصاف، أو قل إنها مسألة قانونية وأخلاقية، ويصعب المفاضلة بين وجهيها. لذلك لابد من الجمع بين مبدئها القانوني أي المساواة باعتباره القاعدة أو المبدأ الأعظم للعدالة، ونوع من اللامساواة قد يكون مقبولا اجتماعيا لتشجيع التفوق ومكافاة المجتهدين وانصاف المقهورين، وهذا مبدؤها الأخلاقي وبذلك فشأن العدالة أن تترجم حقيقة الواقع الاجتماعي للبشر المحكوم بالتفاوت فعليا، وبضرورة المساواة مبدئيا، ويظل التحدي السياسي لكل مجتمع عادل هو عدم التفريط في القاعدة الأولى للعدل المساواة وعدم الافراط في الاستثناء الجزئي للعدالة اللامساواة بغير وجه حق، لأن ذلك يقلب العدالة لظلم وجور أن العدالة إذن فضيلة قوامها التوسط بين رذيلتي الافراط والتفريط لذلك فهي خير أسمى وكما قال. أرسطو "فإن الخير في السياسة إنما هو العدل" أو بعبارة ابن خلدون أن "العدل أساس الملك والظلم مؤذن بخراب العمران".

تعليقات