-نشأة الخطابة عند اليونان:
الخطابة
إبداع إغريقي، بما هي تعليم متميز، مستقل عن المضامين، يسمح بالدفاع عن أي قضية أو
دعوى، وتجدر الإشارة إلى أنه "لم تنشأ الخطابة في أثينا، بل في صقلية
اليونانية نشأت، حوالي سنة 465، بعد طرد الطغاة، ... وقد كان أصلها قضائيا وليس
أدبيا، المواطنون الذين نهبهم الطغاة، طالبوا بثرواتهم، ثم أعقبت الحرب المدنية
العديد من النزاعات القضائية."[1] بهذا المعنى يتضح أن المحطة التاريخية، التي
ظهرت فيها الخطابة، لم يكن هناك محامين ونظام قضائي واضح ومهيكل، الأمر الذي دفع
هؤلاء الخطباء إلى لعب دور المرافعات أثناء المحاكمات العمومية.
و قد
تطور فن الخطابة وظهر خطباء من بينهم بركليس فقيل إنه كان (يتغلب على خصومه، فقد عُرف
بقدرته الفائقة على الكلام، لذا عرف بالأولمبي لمواهبه الفكرية والخطابية التي
صقلها لاتصاله بكبار مفكري عصره مثل أناكساكوراس.[2]
لأن الدافع الأساسي لظهور فن الخطابة حاجة المواطنين لاسترداد حقوقهم وممتلكاتهم
التي صادرها الطغاة، وبذلك احتاجوا إلى الاستعانة بمن هو أقوى منطقا وأقدر على
الكلام والإقناع لتولي أمر إقامة الدعوة فأخذوا يوكلون كوراکس و يضعون القواعد
والأساليب التي بإتباعها يمكن للمرء أن يكون خطيبا.
حيث "تقر مجمل
الدراسات التي تتناول الكيفية التي نشأت بها الخطابة، أن هذه الأخيرة ولدت في خضم
المحاكمات العديدة التي عرفتها مدن صقلية بعد انتهاء الصراع المسلح، وهي محاكمات
تتعلق بمحاولة المواطنين العائدين إلى مدنهم استرداد المملكات التي سلبت منهم إبان
حكم الطغاة، الأمر الذي كان يتطلب منهم أن يرافعوا أمام هيئة محلفين شعبية."[3]، من هنا ظهرت
الحاجة إلى تعلم الخطابة، وهي المهمة التي انبرى للاضطلاع بها معلمون في هذا
المجال، ومن جهودهم ستنبثق أولى قواعد الخطابة.
ومن جهة أخرى تتزامن نشأة الخطابة في رواية
شيشرون مع المحاكمات العديدة التي عرفتها مدن صقلية لاسترجاع المسلوبين أملاكهم. فإذا كان عهد الطغاة قد انتهى، فقد ترك وراءه الكثير من الضحايا، خاصة أولئك
الذين اغتصبت ممتلكاتهم، والذين فتح النظام الديمقراطي الجديد أمامهم إمكانية
استرداد حقهم. "أصبح الخطباء يدافعون عن أنفسهم، من خلال آليات جديدة
ومواقفهم وتصوراتهم بشكل عقلاني، يقوم على الإقناع، ويدافع عنها بكل ما أوتي من
وسائل وإمكانات.
إذن من خلالها يعرف كيف يثبت دعواه وكيف يواجه
دعوى الخصم، وذلك يتطلب منه إتقان الخطابة، هكذا أصبحت معرفة الخطابة ضرورة تفرضها
الظروف الجديدة؟"[4].من هذا
المنطلق نفهم أن الخطابة جاءت نتيجة لتبرير حق الملكية، عن طريق اللغة التي أصبحت
سلطة إيديولوجية، مما ولد الكثير من المواقف والخطابات المتضاربة والمختلفة كل
يسعى إلى إقناع الطرف الآخر بحقه في الملكية.
2- التحولات السياسية
وظهور الخطابة عند اليونان:
ومن جهة أخرى فإن ظهور الخطابة في المجتمع
اليوناني اقترن بوجود الحرية، والحرية لا تسود في مجتمع إلا بسيادة الديمقراطية
كنظام حكم سياسي واجتماعي، يمكن الأفراد من التعبير بشكل حر عن مواقفهم وتصوراتهم
وآراءهم بكل حرية، وهذا الأمر الذي تشكل في اليونان نتيجة ظهور "الدولة المدينةPolis-Cite"[5] وبعدها
أضحى فعل الخطابة جزء من الثقافة التي تعكس أبعاد الفضاء العمومي داخل اليونان،
الذي غلبت عليه المجادلات الفلسفية والسياسية.
ولا شك أن ظروفا خاصة بالمجتمع اليوناني ساهمت
في صياغة نظرية في الخطابة، "وهي ظروف تتفق الأبحاث والدراسات على طابعها
السياسي والمؤسساتي، وتتجلى في الديمقراطية والحرية والتصدي للجور والدفاع عن
الحق، فكانت السلطة الكبرى في تلك الحقبة للقول المقنع القوي بحججه وقدرته على
التأثير والاستمالة."[6]
الأمر الذي دفع أرسطو إلى إنشاء كتاب الخطابة، نظرا لأهميتها في المجتمع وجدواها، باعتبارها
وسيلة حجاجية تمارس دور الإقناع والتأثير، ترتبط بمعيشة الناس وأحوالهم في الأماكن
الشعبية مثل المحاكم والأولمبياد وباقي التجمعات الجماهيرية الخطابية.
إضافة لذلك فإن تأسيس النظام الديمقراطي ساهم في
تمهيد نشأة الخطابة، لأنها فتحت المجال أمام ممارسة الخطابة سواء في المحكمة أو
أمام مجلس الشعب، وبداية التفكير في كيفية تعليمها كانت هي لحظة ميلاد صناعة
الخطابة، لأن تطور
مفهوم الحرية لدى مواطني صقلية بعد إقرار الديمقراطية، ساهم في تطور الخطابة، أصبح الخطيب قادرا على أخذ الكلمة والتعبير عن
وجهة نظره وطرح دعواه وبسط حججه دون منع أو ردع أو أي شكل من أشكال التدخل أو
الضغط.
يظهر إذن الترابط الظاهر بين الخطابة والتحولات
الديمقراطية التي عرفها المجتمع اليوناني، للخطابة علاقات وطيدة مع الديمقراطية، بالمعنى
الذي يفيد أنه حين تظهر الخطابة كصناعة معترف بها فإنها ترسم حدود الديمقراطية
نفسها. "ألم يكن ميلاد الخطابة التقنية قد سجل نهاية نوع من
الديمقراطية المباشرة، وأعلن بداية تنظيم تواصلي تقوده مؤسسات تمثيلية مسيرة من
قبل الثلث التي سنشهد حلولها في التشكيلات السياسية الكبرى؟"[7]ومنه فإن
الخطابة، تعمل على ترسيخ قيم الديمقراطية
والحرية والتسامح ونبذ العنف المادي، ونبذ العقائد المتحجرة والإيديولوجيات
الخانقة، وكل ما له صلة بالحقائق المطلقة التي لا مجال فيها للتردد والشك،
والإمكان والاحتمال.
لأن مجال الخطابة يرتبط بالمعارف الظنية
التخمينية، حيث تظل نتائج الكلام محتملة، ففي الخطابة يعبر الخطيب عن رأي قد يكون
صائبا في نظر البعض، خاطئ في نظر البعض الآخر، دور الخطيب يكمن في محاولة إقناع
المستمع بواسطة الحجج الراجحة لا بالبراهين القطعية، الشيء الذي يعطي للمتلقي حرية
تبني خلاصات الخطيب أو ترکها.
[1]الحسين بنوهاشم، "بلاغة الحجاج-الأصول
اليونانية" دار النشر الكتاب الجديد المتحدة، بيروت في لبنان، 2014،ص 30.
[2]أميرة
حلمي مطر، الفلسفة عند اليونان، جامعة القاهرة، مصر، ط1، 1979، ص 117.
[3]الحسين بنوهاشم،
"بلاغة الحجاج-الأصول اليونانية" دار النشر الكتاب الجديد المتحدة،
بيروت في لبنان، 2014. ص 17.
[4] الحسين بنوهاشم،
"بلاغة الحجاج-الأصول اليونانية" ، ص21.
[5] "دولة
المدينة التي عرفتها اليونان القديمة، عبارة عن نظام أو كيان سياسي أساسه مدينة
مستقلة، تنحصر فيه السيادة والعصبيّة بمواطني المدينة، وإن امتدت السيادة عمليا
لتشمل ما يقع تحت سلطة تلك المدينة من محميات أو مستعمرات. وجذور هذا النظام ضاربة
في القدم، حيث تركّز العمل به حول المرافئ أو المدن التجارية التي تتوفر على أسباب
حماية ذاتية أو جغرافيّة، ولها القدرة على ممارسة التجارة أو السيطرة على الطرق
التجارية. ومن أشهر الأمثلة على هذا النظام ما وقع في عدد من المدن الفينيقية،
أمثال صور وصيدا، وكذلك اليونانية، أمثال أثينا وإسبرطة...
ومن خصائص هذا النوع من النظم السياسية إسهامه في نموّ
شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة بتمكينه مواطني المدينة الأحرار من الاجتماع في
ساحة المدينة، والمشاركة في مناقشة القضايا المطروحة، واتخاذ القرارات وتشريع
القوانين، وذلك لصغر حجم دولة المدينة من جهة، وقلة كثافتها السكانيّة من جهة أخرى.
[7]الحسين بنوهاشم، "بلاغة الحجاج-الأصول
اليونانية" دار النشر الكتاب الجديد المتحدة، بيروت في لبنان، 2014، ص73.