الطرح الإشكالي:
أي نموذج للعلمية في العلوم الإنسانية؟ و هل هذه العلوم مطالبة بمحاكاة نموذج العلوم الدقيقة؟ أليس من الصعب دراسة مكونات الفعل الإنساني بنفس الطريقة التي ندرس بها الواقعة الفيزيائية؟ ألا تفترض الظاهرة الإنسانية البحث عن علمية مختلفة عن نموذج العلمية في العلوم الدقيقة؟ هل يمكن للعلوم الإنسانية أن تحذو حذو العلوم الحقة؟ وهل يمكن للعلوم الإنسانية أن تأخذ العلوم الحقة كنموذج أم أنها مطالبة ببناء نموذجها الخاص؟
يتساءل "جان لاديير" عن أي نموذج للعلمية في العلوم الإنسانية؟ هل نحاكي نموذج العلوم الحقة كما ذهب إلى ذلك أصحاب النزعة الوضعية أم نبني وننشئ نموذجا للعلمية منبثقا من خصوصية العلوم الإنسانية؟
يجيب "لادريير" بأن هناك إمكانيتين:
الأولى: تتجلى في اقتباس المناهج التي أثبتت جدارتها في العلوم الدقيقة وتطبيقها على الظواهر الإنسانية عن طريق موضعتها، أي بوضع الذات الفاعلة بين قوسين وإخراج الفعل البشري عن الذات الفاعلة، بمعنى أخر الفصل بين الجانب الوجداني والجانب العلمي، حتى تصبح الظاهرة الإنسانية قابلا للملاحظة الخارجية والتجريب والقياس والتكرار. غير أن هذه المنهجية تؤدي إلى اسقاط كل الأبعاد الإنسانية من نظام الدلالات و النوايا والغايات والقيم والمعاني، أي كل ما يكون الوجه الوجودي للذات الإنسانية.
الامكانية الثانية:
تكمن في التخلي عن منهد العلوم الحقة و العمل على بناء و إنشاء أداة تحليل أصيلة تتلاءم وطبيعة الموضوع المدروس عن طريق التواصل المباشر مع الظواهر الإنسانية و محاولة معايشتها و تأمل تجربة هذه المعايشة كما تحضر في الوعي. غير أن هذه الإمكانية تخلق جملة من الصعوبات تتجلى في إسقاط الأبعاد الذاتية، على الظاهرة المدروسة والوصول إلى نتائج مشبعة بالذاتية، نظرا للتقيد بالمنظور الذاتي.
المناقشة الداخلية:
نخلص مما سبق أن إشكالية المنهج لا يمكن أن تطرح بعيدا
عن العلاقة الجدلية بين الموضوع والمنهج، فالموضوع هو الذي يجب أن يحدد المنهج
الملائم لدراسته، ولهذا لا يجب أن نتشبث بفكرة العلمية كما في العلوم الفيزيائية،
بل إبداع صورة للعلمية تتماشى و طبيعة الظواهر الإنسانية. ألا يقود تقمص منهج
العلوم الحقة في العلوم الإنسانية إلى قتل خصوصية الوجود الإنساني؟ أليس لتدخل
الذات أهمية قصوى في العلوم الإنسانية؟ فأي نموذج يحافظ على الذات بعمقها الوجداني
والمعرفي ويجعلها أساس الظاهرة الإنسانية؟
موقف إدغار موران:
يرى "إدغار موران" أنه توجد أنماط مختلفة من
العلمية في السوسيولوجيا المعاصرة، حيث يختزلها في نمطين سوسيولوجيين:
1-السوسيولوجيا العلمية:
تهدف إلى اتباع النموذج العلمي بوضع الذات بين قوسين
وتطبيق مناهج العلوم الدقيقة في دراستها. ولهذا النموذج ملمحان أحدهما آلي والآخر
حتمي، تتجلى الدراسة الآلية في تفسير الظواهر والأشياء بالقوانين المتحكمة فيها، والدراسة
الحتمية تتجلى في إرجاع كل ظاهرة إلى شروطها وأسبابها الضرورية التي نتجت عنها.
إنها إذن مناهج تبحث عن العلاقات السببية القائمة بين العلة والمعلول.
2-السوسيولوجيا الإنشائية:
ترفض محاكاة
العلوم الدقيقة لكي لا تسقط في سلبيات السوسيولوجيا العلمية، فهي ترتكز على الذات
باعتبارها الموضوع المقصود في العلوم الإنسانية، لما تحمله من غنى و تنوع وتعدد في
الدلالة والرموز و والقيم. فالذات تمتاز
بالتفكير والشعور والإحساس يجعل منها مركز البحث والدراسة لا الأفعال المفصولة عن
أساسها الذاتي. لأن الذات تمتاز بالتفكير والشعور والإحساس يجعل منها مركز البحث والدراسة
لا الأفعال المفصولة عن أساسها الذاتي.