الطرح الإشكالي:
يعرف لالاند"، الرأي، في قاموسه الفلسفي، قائلا:" الرأي حالة
ذهنية تتمثل في الاعتقاد قول معين مع القبول بإمكان الخطأ أثناء حكمنا هذا "
إذن فإن الرأي حكم أو قضية أو خبر لم يتم لصاحبه فحصه ونقده، إن الرأي'، تبعا لهذا
التحديد، حكم لم يمتحن ويسبر، ليعلم هل مطابق للأمور الموجودة أو غير مطابقة له.
حيث اختلفت المواقف الفلسفية من الرأي وتباينت بين من يرفضه ويعتبره ليس أهلا لأن
نقيم عليه صرحا معرفيا متينا، ومن يقبل به ويقول بوجوب اعتماده.
ما هو الوضع
الإبستيمولوجي للرأي؟ هل بإمكان الرأي أن يكون طريقا آمنا يقود فعلا نحو الحقيقة
أم أن ينبغي التخلص منه؟
أولا- الموقف الرافض للرأي في بناء الحقيقة:
هكذا نجد أفلاطون (427-347 ق.م) يعتبر "الرأي اعتقادا خاطئا" يحتل موقعا وسطيا بین الجهل والمعرفة، لذا فإن بلوغ الحقيقة، يتم عن طريق التأمل العقلي المجرد، وتجاوز عالم الحواس، ولأن الحواس لا تدرك إلا أشباح الحقيقة وظلالها، وهي بمثابة قيود تحول دون إدراك الحقيقة، ولا تنتج سوى ظنا، يشبه الرؤية في كهف مظلم.
موقف ديكارت:
إن الرأي، حسب ديكارت، معرفة مكتسبة، نظنها صحيحة لكنها مدعاة للشك، لأن
مضمونها هو كل ما تسرب إلى الذهن في فترة مبكرة من حياتنا من خلال التربية وما
تلقيناه من تعليم ومن دواعي الشك في تلك المعرفة هو أنها تقوم على مبادی مضطربة
فلا تكون واضحة ولا متميزة. وإذا كان هذا هو حال المعرفة المكتسبة ينبغي نبذها
وتحرير الذات منها والبداية من الصفر، أي البحث عن أسس جديدة وموثوقة لإقامة معارف
يقينية.
حيث جعل من الشك المنهجي خطوة مؤقتة في طريق
الحقيقة اليقينية، الشك في كل المعارف والقضايا والأحكام المسبقة، وقصده من الشك
كما يقول في كتابه "تأملات في الفلسفة الأولى": "هو تجنب الأرض
الرخوة والرمال المتحركة، من أجل إرساء بنائه على صخور متينة"، هذه
المهمة صعبة جدا، لهذا قام بالشك في أسس هذه الآراء مما جعله يضع الحواس موضع
الشك، فربما كان العقل غارقا في حلم طويل، يرى أوهاما ويحسبها حقائق.
لهذا لجأ ديكارت إلى
الشك باعتباره أضمن طريقة للوصول إلى الحقيقة التي جعلها تتحدد بالأفكار الواضحة والمتميزة
التي لا تقبل الشك، وأول فكرة عقلية لا تقبل الشك هي الشك نفسه، حيث يقول: "فأنا
وإن شككت فيه سأظل أشك دائما، فالشك لا ينفي الشك وإنما يؤكده، أنا أشك إذن أنا
أفكر، وأنا أفكر إذن أنا موجود وهي فكرة بديهية بذاتها". وبذلك جعل شك هو الطريق الذي يقود إلى بناء
الحقيقة من خلال منهجي الحدس والاستنباط.
موقف باشلار:
يؤكد على تصور مفاده أن الحقيقة العلمية تتعارض مع
الرأي، فبين المعرفة العلمية والمعرفة العامية قطيعة جذرية نظرا لاختلاف البنية
الذهنية المنتجة لهما. لأن النظريات العلمية تقوم على الخطأ، لهذا يشكل الرأي علة
أمام المعرفة العلمية، لأن العلم على النقيض من الرأي، يمنعنا من التسرع المتمثل
في تكوين رأي بدون تفكير وطرح أسئلة مصاغة بشكل غير سليم.
وتتمثل مهمة
العقل، في إدراك المشاكل وبنائها إذ أن الواقع لا يجيب إلا إذا سألناه، وكل متأمل
لما يجري في حقل المعرفة العلمية سيدرك بان العلم لا يتقدم إلا من خلال ما يثير من
مشاكل من جهة والمحاولة الحثيثة للإجابة على تلك المشاكل وحلها من جهة أخرى.
لهذا نجده يقول: "إن
تاريخ العلوم هو تاريخ انحدار الفكر غير العقلاني". حيث أن تاريخ العلوم
يقوم على مراجعة الأخطاء، لأن تاريخ ينفتح على المستقبل تتم فيه عملية إعادة
البناء. الخطأ إذن جزء لا يتجزأ من الحقيقة العلمية إلى درجة أنه يلعب دورا
إيجابيا في تقدم المعرفة العلمية وتطورها، فالحقيقة لا تبنى إلا على أنقاض الخطأ،
لهذا يقول: "تاريخ العلم تاريخ أخطاء تم تصحيحها". في حين الرأي
يتناول الموضوعات من زاوية نفعها وواقعيتها، يعتقد بإمكانية إدراك حقائق الأشياء
بطريقة مباشرة بدون مناهج علمية دقيقة.
ينبغي على كل من يروم إقامة معرفة علمية أن ينحي
الرأي جانبا، إذا كان العلم، على خلاف الرأي، إعادة نظر ومراجعة دائمة لما نعرف،
فإن المهمة الأولى التي ينبغي إنجازها من طرف كل | من يروم إقامة معرفة علمية هي
تنحية الرأي جانبا باعتباره عائقا ابستيمولوجي أمام تكون المعرفة العلمية.