فما هي المعايير المتخذة في التحقق من صدق معارفنا
وأحكامنا وقضايانا؟ ما هي معايير الحقيقة؟ هل معيار الحقيقة منطقي أم واقعي مادي
أم نفعي؟ ما علاقة الحقيقة بالسلطة؟ وكيف تستثمر وتوزع؟ أليست الحقيقة ذاتها سلطة؟
موقف سبينوزا:
في كتابه «علم الأخلاق» يرفض اسبينوزا أن يكون معيار الحقيقة من خارجها، إذ من ذا الذي يكون دليلا ومعيارا على الحقيقة التي هي نور يفرض ذاته على كل من رأه. إن الحقيقة تدع في نفوسنا يقينا بصحتها بشكل لا يقبل الشك ولا يحتاج إلى التبرير أو البرهان، إنها بداهة ثابتة غير قابلة للتكذيب مادامت كل فكرة صحيحة تحمل يقينها وصحتها في ذاتها، يقول اسبينوزا: «ما هو الشيء الذي يمكنه أن يكون أشد وضوحا وبداهة من الفكرة الصحيحة حتى يكون معيارا للحقيقة؟ فكما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها ومعيار للخطأ».. نعرف الحقيقة بالحقيقة. |
موقف دافيد هيوم:
يذهب دافيد هيوم إلى القول بوجود معيارين
للتحقق من صحة المعارف حيث يقسم المعارف الإنسانية إلى معارف عقلية ومعارف
تجريبية، الحقيقة العقلية يقصد بها المعقول الذي ثبت صدقها بالبرهان، سواء كان
البرهان قائما على الحجة التي لا يشوبها شك أو البرهان القائم على الاستدلال في
الرياضيات والمنطق وذلك عن طريق افتراض مقدمات صادقة بالضرورة واشتقاق نتائج صادقة
منها بناء على صدق وتعيين المقدمات.
هذه الحقيقة العقلية
تتعلق بالمعارف الرياضية والمنطقية التي تتعلق بعلاقة الأفكار فيما بينها، والمتوصل
إليها عن طريق الحدس والبرهان. وهي حقائق مستمدة من العقل وحده دون أن تكون لها
علاقة بالواقع الخارجي، تقوم على عدم تناقض الأقوال والقضايا بحيث لا يتطلب التحقق
من صدقها إلا مراعاة التناسق الداخلي في القضية أو فالحقيقة العقلية الحكم، فخلوها
من التناقض دليل صدقها بدون الاعتماد على العالم الخارجي.
أما الحقيقة التجريبية فهي تشكل المعارف الثانية
للعقل البشري، وهي معارف مستمدة من الواقع الخارجي، بحيث يتلقاها العقل عبر الحواس
دون تدخل شروط العقل في تكوينها، هذه المعارف لا ترقى إلى يقين المعارف العقلية،
لأنها معارف لا يحكمها مبدأ السببية مما يجعلها معارف مشكوك فيها.
موقف مشيل فوكو:
إذا كنا قد لاحظنا أن معيار الحقيقة إما
العقل وإما التجربة، فإن فوكو سيربط الحقيقة بالسلطة، فكل منهما تقوم
بحضور الأخرى، إلى درجة يصعب معها إيجاد حقيقة بدون سلطة أو سلطة بدون حقيقة، مما
يعني أن الحقيقة تنتج وتصنع وتطبخ في مطابخ السلطة وفق شروط معينة وظروف محددة.
هل يمكن تأسيس الحقيقة
خارج المؤسسات المجتمعية؟ ماذا تكون الحقيقة، وكيف تعمل، وإلى أين تؤدي؟ ما
علاقتها بالرغبة وبالسلطة؟ كيف تستثمر وتتوزع وتتواصل؟
يقول فوكو: "الحقيقة ليست خارج السلطة
ولا مجردة من السلطة"، يمكن القول إذن إن الحقيقة ترتبط بالسلطة، حيث أن لكل
مجتمع آلياته في التمييز بين الحقيقي والكاذب و له كذلك إجراءاته التي يتوصل بها
إلى الحقيقة و له المؤسسات التي تصنع الحقيقة وفق ما تراه السلطة صالحا.
إن الحقيقة تخضع للسلطة
المنطقية والعلمية وللسلطة السياسية كذلك، هناك اقتصاد سياسي للحقيقة، أي الشروط و
الميكانيزمات التي تنتج المعارف و تضاعف الخطابات، ففوكو يبحث في كيفية توزع
السلطات، و عملها و أفاعيلها و علاقاتها بخطاب الحقيقة و أنواع هذا الخطاب، تنتج و
تنتقل تحت رقابة بعض الأجهزة السياسية و الاقتصادية الكبرى كالجامعة و الجيش و
وسائل الاتصال، الحقيقة تمثل رهان جدال سياسي و مواجهة اجتماعية تظهرها الصراعات
الإيديولوجية خاصة.